لبنان حريق وغريق

TT

الدراسة التي نشرتها «الدولية للمعلومات» الشهر الماضي، تثبت بالأرقام أن اللبنانيين باتوا على يقين من أنهم على شفير انهيارات كبيرة، في ما حلمهم الوحيد المتبقي هو النجاة بجلدهم. 54% من المواطنين يعيشون هاجس الحرب، و59% منهم مع إلغاء المحكمة أو تعديل عملها، خوفا من أن تأتيهم بالأعظم.

«من يضرب بالعصي ليس كمن يعدها». التحليلات السياسية الباردة، لا تأخذ بعين الاعتبار المهالك التي يتعرض لها مواطن، تأتيه المصائب من السماء كما الأرض. 120 حريقا في يوم واحد، ليس مما اعتاده اللبنانيون، حرارة تصل إلى 30 درجة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) لهي مما يدمر المزروعات الموسمية ويهدد الناس في لقمة عيشهم. مأساة أخرى تضاف إلى غلاء الأسعار الذي لا يطاق، ولا يشبه في شيء الحد الأدنى لرواتب الموظفين. البلد لا يحتمل الحر، لكن المهزلة أنه غير قادر على مواجهة الشتاء أيضا. بمجرد أن نزلت الأمطار خفيفة وبالقطارة، طافت الطرقات، اختنق السير، وكادت الانهيارات الصخرية تودي بحياة المارة على الطرقات الجبلية. وبعد شتوة إضافية أو اثنتين سنسمع عن مزيد من الأضرار، ونداءات الاستغاثة.

المعضلات اليومية يتعاظم شأنها. الموضوع ليس أن الحكومة تتنازع على طريقة التعامل مع المحكمة والقرار الظني وشلت حركتها. لبنان متروك منذ سنوات لفوضى تتآكله، والسؤال الكبير كم سنة أخرى يحتمل؟ وماذا لو تحول القرار الظني كما تهدد المعارضة إلى قنبلة تنفجر. النيران لن تأكل فريق 8 آذار أو 14، فالساسة في الطرفين تبعا للمعادلات السياسية اللبنانية ينبعثون من الرماد كلما احترقوا، كما طائر الفينيق. الضحايا هم الناس، كما حدث في الحرب الأهلية، وكما رأينا منذ أيام حين كادت النار تلتهم البيوت بعد أن ابتلعت آلاف الأمتار من الشجر. العجز مروع، الوزراء المسؤولون يقفون أمام الميكروفون ويشكون للمواطنين قلة حيلتهم، مع عدم توفر إمكانات تسعفهم بالتحرك. المشهد السوريالي هذا، بات مألوفا، وزير الأشغال يوم سقطت الطائرة الإثيوبية، ووزير الكهرباء عندما انتفض المواطنون يسألون عن حقهم في النور، ووزير الداخلية وهو يرى السكان يحاولون إطفاء الغابات بخراطيمهم المنزلية. وقبلهم قدم الاستعراض الأليم نفسه وزراء كثيرون، كلهم ينتحبون عجزا. فمن هو القادر على الفعل في بلد، لا حول فيه لأحد ولا قوة؟

بحسب تقديرات منظمة العمل الدولية فإن 25% من اللبنانيين عاطلون عن العمل. ومع ذلك فإن أسعار وإيجارات الشقق تحلق في فضاءات لا يطالها شاب ولا كهل. البيت الذي تدفع ثمنه عمرك كله، قد لا يؤمن لك غير مياه مالحة لا تصلح لغسل وجهك. ومع فشل ذريع في تحقيق التنمية المتوازنة للمناطق يحشر 40% من اللبنانيين في بيروت، مع 900 ألف سيارة.

ليس هناك خيبة في التخطيط. هناك غياب كلي في لبنان لرؤية تنظيمية عامة تشمل المرافق كلها والبنية التحتية بشكل خاص. أكثر من 50 مليار دولار من الدين نستطيع الآن، ونحن نرى ما وصل إليه لبنان أن نقول إنها رميت من النافذة.

اجتمعت نخبة من المتخصصين في مجال الاستثمار الابتكاري في بيروت منذ عدة أيام، وتكلموا عن إمكانية تحويل لبنان إلى بلد يعج بالأفكار الاقتصادية الخلاقة، إن أمكن التشبيك بين المهرة من أبنائه، معتمدين في فكرتهم على الطاقات البشرية الاستثنائية التي للبنانيين في المنطقة. الخبراء الأجانب محقون في ما ذهبوا إليه، لكنهم اصطدموا بما أخبرهم به زملاؤهم اللبنانيون، عن تهلهل البنية التحتية وضعفها. وكي لا نذكر كل المعوقات، سنأتي على واحدة فقط. روى غابريل ديك وهو رئيس جمعية متخصصة في الكومبيوتر أنه منذ عام 1996 يحاول مع آخرين في مهنته تحريك الحكومة دون جدوى. وأكمل قائلا إنه سأل الملياردير اللبناني الأصل كارلوس سليم عندما زار بلاد الأرز: كيف يمكن للبنان أن يصبح حاضرا على الخريطة المعلوماتية، فما كان من الملياردير الشهير إلا أن أجابه: «ابدأوا بتأمين الكهرباء». وتستغرب حين تسمع أن اللبنانيين في هذا المؤتمر، لم يطالبوا الحكومة بمشاريع وإنما بتوفير أرضية وطن يسمح لهم بالعمل والحركة. أما الشكوى الأساسية فإن مبادراتهم بدل أن تشجع تعرقل.

العيون شاخصة إلى محاولات «س. س» لحل مأزق القرار الظني، الذي لا يعرف أحد ما ستكون انعكاساته على الداخل اللبناني. يعرف المتفرجون من الخارج أنه قد يؤدي إلى فتنة، وربما معارك لا تحمد عقباها. أما اللبنانيون، فيعرفون وقلوبهم تحترق، أن النظام السياسي بات أضعف من أن يدافع عن وجوده، والخوف هو من المجهول.

الخبر السعيد الوحيد، وسط غابات الأخبار الرديئة في لبنان، أن 13% فقط من المستطلعين في دراسة «الدولية للمعلومات»، عبروا عن استعدادهم لحمل السلاح، في حال ساءت الأحوال في لبنان، واتجهت نحو الحرب، 67% قالوا إنهم غير مستعدين على الإطلاق لهكذا مغامرة. وهذا هو الأمل الوحيد المتبقي الذي يمكن أن يضيء ظلام اللبنانيين الدامس، في انتظار أن يستفيق السياسيون من غفلتهم المرعبة.