دروس «ويكيليكس»

TT

زمن ما بعد «ويكيليكس» ليس كما قبله.

إنه الدرس الذي تعكف دوائر الدبلوماسية على تحليله وتقدير مفاعيله واستقراء كيف يمكن تفادي تكراره مستقبلا، إن أفلحت. فأن لا تتكرّر هذه الفضائح، يعني أن على الحكومات وعلى السياسيين أيضا ممارسة قدر عال من الشفافية والوضوح، وهما أمران لا يبدو أن أحدا قادر على الالتزام بأي منهما.

ما يعنينا كإعلام ليس أقل أهمية، إذ يظهر أن علينا أن ننكب على قراءة دروس «ويكيليكس» وإن من زاويا أخرى. ففي غمرة ما تم كشفه، تظهر وثائق دبلوماسية أميركية استخدام قطر لقناة «الجزيرة» كأداة مساومة في مفاوضاتها مع بعض الدول. وبهذا المعنى يصف دبلوماسي أميركي في مذكرة سرية قناة «الجزيرة» بأنها أهم الأدوات السياسية والدبلوماسية التي تملكها قطر وغالبا ما تكون جزءا من المحادثات الثنائية مع أطراف مقابلة.

ليس فيما سرب من جديد، فمنذ انطلاقة القناة وفي ذروة الانشغال العربي والعالمي بها كان جليا مدى تعويل السياسة القطرية على «الجزيرة» وبالتالي لم تشكل الوثائق التي تتحدث عن عروض قدمتها قطر في لقاءات دبلوماسية بوقف برامج بعينها لتحقيق مكاسب سياسية بالمفاجأة.

قطر كانت تبحث عن دور وموقع، وساهمت قناة «الجزيرة» في تحقيق هذا الأمر، وما الحديث عن استقلال تحريري سوى ترويج إعلامي ندأب على تكراره جميعنا في الإعلام العربي رغم إدراكنا أننا نغالط أنفسنا قبل الآخرين. فليست المواقف الحاسمة التي ندأب على تكرارها عن مسافات موهومة عن السياسة سوى شعارات واهمة وهنا تكمن ضائقتنا.

حتما لا يقتصر معنى ما تم تسريبه من وثائق «ويكيليكس» على دولة قطر وقناة «الجزيرة» وحدهما. فلكل دولة في بلادنا «جزيرتها» ولكل «جزيرة» حساباتها وأدوار تلعبها، وإن بتفاوت في الحجم والمصالح. وقد تطالعنا «ويكيليكس» بوثائق تطال وسائل إعلام أخرى ودولا وأحزابا، من يدري.

نحن نعي هذا الواقع ونعيشه لكن للوثائق وقع آخر.

الكشف في وثائق «ويكيليكس» يعرّي مدى التصاق الإعلام العربي بالسياسة والتحاقه بها في أحوال كثيرة. حتما ليس الإعلام العربي وحده من يعاني هذه المعضلة لكنه يتفوق فيها. وهذا الالتحاق المزمن بالسياسة يحرمنا التعويل على إيجابيات وقفزات حققتها قنوات ووسائل إعلام تبقى غالبا أسيرة الخيارات السياسية للدول الراعية أو للجهات الممولة لها.

ما فعلته «ويكيليكس» هنا يتمثل في أنها ثبتت ما كنّا مقتنعين به من دون وثائق. وهذا الكشف لا ينبغي أن يكون عابرا بل هو فرصة تقتضي منا التوقف عندها بغية الانتقال من مرحلة الاختلاف إلى مرحلة السعي نحو نقاش علني يبحث بجدية إمكان وجود وسائل إعلام قليلة التأثر بالجهات التي تمولها.

هناك مراجعات تجريها دوائر الدبلوماسية في أعقاب «ويكيليكس»، فهل تتم مراجعة موازية تجريها وسائل الإعلام في ضوء ما انكشف من وقائع.

بالتأكيد هذا العبء لا تحمل مسؤوليته وسائل الإعلام وحدها لكنها هي من يدفع ثمنه.

diana@ asharqalawsat.com