مؤسسة الفكر العربي ومؤتمرها في بيروت

TT

عقدت مؤسسة الفكر العربي مؤتمرها التاسع في بيروت. وبيروت هي مدينة المقرّ التي اختارها لها مؤسِّسُها وحاملُ لواء فكرتها الأمير خالد الفيصل. وكانت الموضوعات الرئيسية في المؤتمر، والتي ناقشها المحاضرون والمعقّبون والمعلِّقون هي: الإبداع، والتلاحُم الاجتماعي، وروح المبادرة الاقتصادية، والتعليم.

وكان الأمير خالد الفيصل قد طرح فكرة المؤسسة للتداول على المستوى العربي على مشارف الألفية الثالثة. والهدف: الإسهام في صنع نهضةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وحضاريةٍ عربية، يتشارك في إنجازها أهل الثقافة والفكر، وأهل المال والأعمال. وقد واجهت المؤسَّسة منذ طرْح فكرتها ثلاثة أنواعٍ من التحديات: التحدي الطَموح للفكرة ذاتها، وتحدّي الشراكة المرتجاة أو المستهدَفة، وتحدي القدرة على التحشيد والسير لتحقيق الهدف النهضوي. وبالوسع القول الآن، والمؤسسة في عامها التاسع، إنها استطاعت مواجهة تلك التحديات بالإصرار على الفكرة، بالعمل الجاد، مما مكَّنَ من تجاوُز شتّى ظروف وسياقات الإحباط والتعويق. ففي المجال الأول، مجال الفكرة، قيل في البداية إنها شديدة الأمل، فالأوضاع سيئةٌ ومحبطةٌ، والقول إنّ النهوض ممكنٌ، وإنه ينبغي البدءُ بالعملية دون تردد، كلُّ ذلك يحولُ دونه أنّ هذه الفكرة طَموحةٌ جدا، وكيف ستنجحُ في هدفٍ سبقت إليه محاولاتٌ أُخرى وما تحقّق منه شيء. بيد أنّ هذا التحدّي، جرت مواجهتُهُ بقيام المؤسَّسة، وبوضْعها أهدافا تحقّق أكثرها بالتدرُّج وبالتشاوُر وبالمشاركة بالإبداع.

أما التحدي الثاني، وهو تحدي تعاوُن أهل المال والأعمال، وأهل الإنتاج الثقافي والفكري، في إقامة المؤسَّسة؛ فقد نجح إلى حدٍ كبير. إذ بهمّة الأمير الفيصل، وهو رجل فكرٍ وعمل، أقبل كُلُّ المدعوين من الجهتين المالية والفكرية على الإسهام بمقادير وطاقاتٍ عزَّ نظيرُها حتى في المؤسسات التي أقامتها دولٌ كبرى وجهاتٌ دوليةٌ نافذة. وهكذا فهناك اليوم، وفي مؤسسة الفكر العربي دون غيرها، شراكاتٌ واسعةٌ تتجاوز أهل الفكر والعمل المالي، إلى سائر القطاعات المنتجة في الوطن العربي، وفي طليعتها قطاعات الشباب، والمرأة، وسائر جهات المجتمع المدني الاقتصادية والثقافية والسياسية العربية. وبسبب سُمُوّ الهدف ونزاهة العمل؛ فإنّ مؤتمرات المؤسسة التي أُقيمت في مشارق الوطن العربي ومغاربه، استقطبت جمهورا عريضا ما احتاج إلى الدعوات المباشرة في الحضور والفعالية، وهذا هو المعنى الواسع والجدّي والمُجدي للمشاركة. إنّ استطلاعات الرأي السريعة والمتأنية معا تُشير إلى وعي كبيرٍ على المستوى العربي بأهمية المؤسسة في فكرتها وعملها، بقدْر الوعي بالمأزق، والطموح إلى الخروج منه باتجاه المستقبل الواعد. وأما التحدي الثالث وهو تحدٍ عملي، ويتمثل في المشروعات والنشاطات النوعية التي اجترحتها المؤسَّسة باتجاهين: اتجاه الضرب على مواطن الضعف والتأزم، واتّجاه فتح الآفاق المستقبلية. لقد بذلت قيادةُ المؤسَّسة في الأعوام الثلاثة الأولى جهودا جبارةً في استكشاف نقاط الضعف، وفي تشخيص الترددات، ووضع الأولويات. ثم كانت هناك انطلاقةٌ كبرى لفتح الآفاق بالمشروعات النوعية: نشاطات الشباب، وإحياء العناية بلغة الضاد وجعْلها لغةً عصرية، وبحث مشكلات التعليم وإطلاق المبادرات لحلّها، والتنمية الثقافية العربية، والقمة الثقافية العربية، وتقرير التنمية العربية، وترجمة تقارير استراتيجية عالمية، ودعم مشروعات للترجمة عن الثقافات والمجالات الناهضة مثل الصين والهند واليابان، وأخيرا إطلاق مركز أبحاث يستقطب الدارسين والفاعلين. والمُبدعُ في هذه المشروعات النوعية ليس الموضوعات والآفاق وحسْب؛ بل والقائمون على الإنفاذ في جهاز مؤسسة الفكر العربي، والمتعاونون والمشاركون من الطاقات الخلاّقة في سائر أنحاء الوطن العربي، وهم يبلغون مئاتٍ ومئات وجُلُّهم من الطاقات الشابة، التي ما أُتيحت لمعظمها الفرصة من قبل للإسهام والاندماج في مشروعاتٍ هادفة، تكتسبُ من خلالها التدريب والخبرة، وتُنتج من أجل الحاضر العربي والمستقبل العربي.

على مدى يومي 8 و9 ديسمبر (كانون الأول) 2010، عمل مؤتمر فكر (9) على خمسة محاور: دور العرب في رسم المستقبل، وخرائط جديدة للفرص الناشئة، واقتصاد المعرفة: فرص جديدة، والإبداع الاجتماعي في الوطن العربي، والفكر العربي الحديث (جلسة نقاش عام حول الاتجاهات والفرص المتنوعة). ومع بدء المؤتمر أعلن الأمير خالد الفيصل رئيس المؤسسة عن صدور التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية في مجلدٍ ضخمٍ، يتضمن استطلاعاتٍ وبحوثا عن «البحث العلمي في الوطن العربي، وبحوث المعلوماتية، وحركة التأليف والنشر عام 2009، والمشهد الإبداعي العربي، واستطلاع عن القضايا والتساؤلات التي انشغل بها العرب عام 2009 بعنوان: الحصاد السنوي».

لقد شارك في مؤتمر فكر (9) بمؤسسة الفكر العربي ببيروت، زُهاء مائتي مفكر وكاتب ومُناقش ومتدخّل. والمشاركة لا تقتصر على المحاضرة أو التعقيب، بل تتناول أيضا خطط المؤسسة ومشروعاتها للسنوات العشر المقبلة. ولكي تزيد المؤسسةُ من فعالياتها ونشاطاتها وإسهاماتها في خدمة البحث العلمي والثقافة العربية؛ فقد أعلن الأمير أيضا عن إقامة مركز للأبحاث في قلبها، يُعنى بالمسائل الثقافية الاستراتيجية، ويتشارك في العمل عليها باحثون من المؤسسة وخارجها، وترمي المؤسسة من وراء ذلك إلى تشجيع كبار الباحثين وشبانهم باقتراح المشروعات وبالإقبال في العمل عليها بالوسائل العلمية الملائمة.

عندما أطلقت مؤسسة الفكر العربي قبل ثلاث سنوات للمرة الأولى التقرير العربي للتنمية الثقافية، بدا في صيغته الأولى مُشابها لتقارير التنمية البشرية الشهيرة التي أثارت في حينها ضجةً كبرى. بيد أنّ التقرير الثالث الذي أُعلن عن صدوره في مطلع المؤتمر، تخطّى الضجيج والإشكاليات الآيديولوجية والسياسية؛ من حيث الصيغة، ومن حيث المعالجة للموضوعات. فالموضوعات الخمسة التي عولجت في التقرير (البحث العلمي، والمعلوماتية، والتأليف والنشر، والمشهد الإبداعي، والحصاد السنوي - 2009) قام على كتابة كلٍ منها عشراتٌ من الباحثين المختصّين، واتّسمت بالشمول، وتجنُّب إصدار الأحكام القيمية العامة. وقد تراوحت المعالجات بين الاستناد إلى الإحصائيات المتوافرة، والقيام بتحليل وافٍ لتلك الإحصائيات، ثم إصدار تقييم أوَّلي لا يبالغ في التشاؤم، كما أنه لا ينسى أو يتجاهل التنويه بالتميُّز. ولعلّ أبرز وجوه القصور التي جرت الإشارةُ إليها تلك المتعلقة بعدد المنشورات، سواء من المؤلَّف أو المترجَم، ثم تتبُّع وسائل ووسائط المعرفة المعاصرة، والنظر في إمكانيات التطور والتطوير. وقد أثارت انتباهي في التقرير لهذه الجهات: مسائل البحث العلمي، ومسائل التأليف والنشر، وما سمّاه التقرير بالحصاد السنوي. وقد قصد كاتبو التقرير بالحصاد: القضايا والتساؤلات التي انشغل بها العرب عام 2009. والواقع أنّ تحديد تلك القضايا والتساؤلات من طريق المؤلَّفات المنشورة (دون الرجوع المتتبع إلى الوسائل الأُخرى مثل صفحات الصحف اليومية، والمجلاّت)، لا يشكّل مؤشّرا مكتمل الصلاحية. وصحيح أنّ كاتبي التقرير إنما رجعوا إضافةً للمؤلَّفات إلى بعض المجلاَّت الثقافية أو الثقافية/ السياسية، مثل مجلة التسامُح العُمانية، ومجلة وجهات نظر المصرية؛ إلاّ أنّ ذلك كما سبق القولُ، ما كان وافيا. ومع أنّ النتائج التي جرى التوصُّلُ إليها تبقى معتبرةً بشكلٍ عام؛ لكنّ القول إنّ الموضوعات مكررة ومُعادة لا مسوِّغ له أيضا: فلماذا ينبغي أن تتغير موضوعات الاهتمام بشكلٍ مطلقٍ أو حتّى نسبْي بين عامٍ وآخر؟! وأرى أنّ القسم الخاصّ بالتأليف والنشر يظلُّ أدقّ، لاعتماده الإحصاء من جهة، وعدم التوصل إلى أحكامٍ قاطعةٍ من جهةٍ ثانية.لقد نجحت مؤسسة الفكر العربي من خلال المشروعات النوعية، ومن خلال المشاركة الواسعة، وقبل ذلك وبعده من خلال الفكرة الكبيرة التي تلتزم بها وتستمر في العمل عليها: فكرة النهوض العربي، ومشروع النهوض العربي.