عصر ما بعد الدبلوماسية

TT

هناك أحداث مفصلية في التاريخ كسقوط حائط برلين وكعملية 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية، يدخل العالم بعدها في حقبة غير التي كان فيها قبلها. وعلى الرغم من أن فضيحة «ويكيليكس» لا تصل في خطورتها إلى درجة الأحداث المحولة للتاريخ، فإنها تشكل حدثا دبلوماسيا وسياسيا وإعلاميا مهمّا، من شأنه إدخال العلاقات بين الدول في ميادين أو آفاق جديدة.

خطوط الفضيحة باتت معروفة بعد أن أسهبت وسائل الإعلام في تناقلها: موقع إلكتروني استطاع الحصول على مئات الألوف من الوثائق السرية الأميركية ونشرها على موقعه. وهي تكشف عن أسرار المراسلات الدبلوماسية الأميركية، كما تكشف ازدواجية الخطابات الرسمية لعدد كبير من الحكام والسياسيين في العالم.

ومن البديهي أن يؤدي هذا التسريب إلى أمرين: الأول، هو اتخاذ الأجهزة الحكومية في الولايات المتحدة والعالم تدابير وقائية تحول دون تكرر تسريبات مماثلة. والثاني هو تحفظ الحكام والرؤساء والسياسيين في العالم في الكشف عن قناعاتهم وآرائهم الحميمة أمام سفراء الدول في المقابلات الخاصة. حتى إن بعض المسؤولين العرب أخذوا يطلبون من السفراء والزوار الغربيين لهم الاستغناء عن المرافق الذي يدون ما يدور من حديث معهم. مع العلم بأن الاتكال على الذاكرة أقل دقة من الكتابة أو التسجيل.

ثمة أسئلة أخرى طرحتها هذه القضية، وليس من السهل الإجابة عنها، اليوم:

سؤال أول: هل هناك عند الدول دبلوماسيتان، واحدة علنية والأخرى سرية؟ وأيهما تعكس حقيقة تفكير الحكم أو نياته؟

سؤال ثان: هل التعتيم السياسي أفضل في العلاقات الدولية لخدمة المصلحة الوطنية والسلام في العالم، أم الشفافية؟

سؤال ثالث: من الرابح ومن الخاسر في فضيحة «ويكيليكس» وما يشبهها من فضائح كشف أسرار الدبلوماسية: هل هي الولايات المتحدة؟ أم الحكام الذين انكشفت ازدواجية خطابهم؟ أم الشعوب التي اكتشفت أن من يحكمونها لهم خطابان: أحدهما للاستهلاك المحلي أو الإقليمي، والثاني برسم الدول الكبرى؟

سؤال رابع: هل ستؤدي هذه الفضيحة إلى تعطيل العمل الدبلوماسي كأداة لحل النزاعات الدولية؟

لقد كانت المراسلات الدبلوماسية، منذ أن نشأ التمثيل الدبلوماسي، تلعب دورا كبيرا في توجيه السياسة الخارجية، وفي اندلاع الحروب أو تدعيم السلام. وكانت الدول الكبرى تحافظ على سرية تلك المراسلات لفترة عشرين أو ثلاثين عاما قبل «فتحها» أمام الدارسين والمؤرخين. أما اليوم، فالمراسلات الدبلوماسية فقدت كثيرا من أهميتها في إطلاع الحكام على ما يجري في كواليس الحكم في الدول الأخرى. فوسائل الإعلام الحديثة (صحف، راديو، تلفزيون، إنترنت، هاتف) كفيلة بتنوير المسؤولين والشعوب، حول كل ما يجري في العالم، وفي الدقائق التي تلي وقوع الحدث، وردود الفعل المختلفة بشأنه.

في الواقع، بات العالم يعيش اليوم «عصر ما بعد الدبلوماسية»، أي عصر الاستطلاع والتواصل والقرار الإلكتروني، حتى إن أحدهم كتب يقول: «إن العالم الافتراضي بات اليوم هو العالم الواقعي». فكمية الأموال التي تتلاعب بها البورصات في العالم بواسطة الفاكس والهاتف والإنترنت تتجاوز مئات المليارات. وبوسع أي مستعمل للمواقع الإلكترونية أن يطلع على كل المعلومات والأسرار عن أي بلد في العالم، في أقل من خمس ساعات، وأن يوصل أي معلومة أو إشاعة أو دسيسة إلى أطراف العالم الأربعة وهو جالس في غرفته. كذلك لم تعد الحكومات والأجهزة الأمنية في حاجة إلى جواسيس وعملاء، بعد أن أصبح خبراء الكومبيوتر قادرين على اختراق أجهزة الاتصالات والتنصت على المخابرات.

صحيح أن شخصين، أي مهرب المعلومات وناشرها، استطاعا «هز» دولة في حجم الولايات المتحدة. ولكن بصرف النظر عما سيصيبهما من ملاحقات وعقوبات، أو ما ستتخذه الولايات المتحدة، ودول أخرى، من تدابير لمنع تكرار مثل هذه الفضيحة، فإن هذه التسريبات لم تكن تداعياتها سلبية كليا، بل ربما كانت إيجابياتها أكبر من سلبياتها؛ إذ إنها قد تساعد الإدارة الأميركية على إدراك حقيقة المشكلات التي تتعاطى معها في العالم، كما تساعد بعض المسؤولين العرب والمسلمين على التزام خطاب سياسي واحد، في السر والعلن، مع العلم بأن الشفافية الزائدة قد تضر أحيانا، وأن «ليس كل ما يعلم يقال».

ملاحظة أخيرة، وهي خلو هذه التسريبات من أي وثيقة تتحدث عن إسرائيل والعلاقات الأميركية - الإسرائيلية، مما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان هناك وراء هذه «الفضيحة» غرض آخر، وهو إضعاف مركز الرئيس الأميركي أوباما، بعد أن أعلن أن ممثل دولة فلسطين سوف يجلس بين أعضاء الأمم المتحدة، العام المقبل؟!