سياسة أوباما الخارجية تنتصر في جنوب السودان

TT

تقف إدارة أوباما، التي تواجه تحديات عصيبة من قبل الطموحات النووية الإيرانية والمغامرات الكورية الشمالية الخطيرة، على أعتاب إنجاز دبلوماسي كبير في السودان، ذلك أنه حال عدم وقوع إخفاقات فنية ترجئ الاستفتاء، أو اندلاع أعمال عنف غير متوقعة، فإن جنوب السودان سيوافق على إجراء استفتاء حول الاستقلال في 9 يناير (كانون الثاني). وبعد ستة شهور، سيرتفع على أراضيه علم جديد، وتعزف ألحان نشيد وطني جديد. المؤكد أن هذا الأمر يشهد محاولة نادرة تنطوي على كثير من المخاطر تضطلع فيها الولايات المتحدة بدور القابلة التي تساعد في ولادة أمة جديدة.

منذ ست سنوات فقط كانت هذه النتيجة تبدو مستحيلة، حيث تورط الشمال الذي تقطنه أغلبية مسلمة، والجنوب ذو الأغلبية المسيحية، في حرب أهلية استمرت عقدين، أطلقت العنان لإبادة جماعية، وأفرزت ملايين اللاجئين، وبلغ عدد ضحاياها نحو ثلاثة أضعاف ضحايا الحرب الأهلية الأميركية. إلا أنه في عام 2005، توسطت إدارة بوش في «اتفاق سلام شامل» أثمر حكومة وحدة وطنية ووعدا بإجراء استفتاء حول استقلال الجنوب عام 2011.

وحتى ستة شهور ماضية بدت إمكانية تنفيذ هذا الاتفاق غير محتملة. وتسببت الانتهاكات الانتخابية خلال منافسات محلية في توسيع هوة انقسامات مريرة، وأحيانا عنيفة، داخل الجنوب. في الوقت ذاته، افتقرت سياسة إدارة أوباما تجاه السودان إلى التنسيق والفعالية، مما جعلها عرضة لانتقادات واسعة.

لكن صيف 2010 شكل نقطة تحول، حيث أفاقت الإدارة على حقيقة أن استفتاء من المقرر عقده في غضون أقل من 200 يوم، بينما لم يستعد له أحد. وبذلت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون جهودا حثيثة لرفع هذه القضية إلى المستوى الرئاسي، مطالبة، طبقا لما ذكره أحد المسؤولين، بإقرار «فريق واحد ومعركة واحدة». في أغسطس (آب)، أعلن الرئيس أوباما تعيين دينيس ماكدونو، الذي عمل حينها رئيسا لفريق العاملين بمجلس الأمن القومي، ويعمل الآن نائبا لمستشار الأمن القومي، مسؤولا عن تنسيق استجابة حكومية موحدة إزاء السودان.

وحمل التوجه العام للإدارة، والذي حمل اسم «خارطة الطريق»، وعدا عاما بتقديم سلسلة من «الجزر» لنظام الخرطوم - تتمثل في مراجعة وضعه على قائمة الدول الراعية للإرهاب والشروع في رفع العقوبات وبدء مناقشات حول خفض الديون - مقابل السماح للجنوب بالانفصال في هدوء. وحمل السيناتور جون كيري رسائل، ومارس ضغوطا على الخرطوم وجوبا، عاصمة الجنوب. وكانت حملة ضغوط فاعلة.

وأثبت قادة الجنوب أنهم على مستوى الحدث، حيث شجعوا على عقد حوار داخلي قلل حدة الصراع والعنف في الجنوب. ويبدو أن عناصر من نظام الخرطوم مستعدة لقبول استقلال الجنوب على مضض، بناء على حسابات ترى أن خارطة الطريق سالفة الذكر ربما تقلل عزلة السودان كدولة منبوذة، وربما أصبحت لدى هذه العناصر قناعة بأن إعادة غزو الجنوب عسكريا لم تعد خيارا مطروحا.

الملاحظ أن كل إنجاز جديد تصاحبه تعقيدات جديدة، فما بين الاستفتاء على الاستقلال في يناير (كانون الثاني) والاستقلال الكامل في 9 يوليو (تموز)، ستتعين تسوية مجموعة متنوعة من القضايا تتعلق بالحدود والمواطنة والأمن وتوزيع عائدات النفط. ولا شك أن هذا الأمر سيمثل محاولة صعبة بحاجة لبناء الثقة بين جانبين أكثر اعتيادا على الحرب. وسيحتاج جنوب السودان إلى مساعدة كبيرة لتجنب تحوله إلى دولة منهارة، وسيحتاج بصورة خاصة لبناء قدرته على ممارسة الحكم ومحاربة الفساد. والواضح أن مسألة كيفية التعامل مع اللاجئين الجنوبيين في الشمال، الذين تتراوح أعدادهم بين 1.5 ومليوني نسمة، ستتسم بحساسية خاصة. وسيكون من السهل على هؤلاء اللاجئين التحول لرهائن، ولا تزال منطقة سودانية أخرى ثائرة - دارفور الواقعة بالغرب - في خضم حرب مفتوحة ومفاوضات هشة، لا يزال يعاني فيها المدنيون.

ومع ذلك، فإنه حتى النجاحات الدبلوماسية الجزئية جديرة بالاحتفال بها. وبافتراض إنجاز المرحلة الأخيرة من سباق طويل، سيسمح استقلال الجنوب لهؤلاء الأفراد الذين طالت معاناتهم بحكم أنفسهم والدفاع عن أنفسهم، وهو تطور يبدو مرضيا لقوة ثورية مثل أميركا. ومن شأن نيل الجنوب للسيادة الحد بصورة دائمة من قدرة الخرطوم على التسبب في أذى داخل منطقة واسعة اعتادت لفترة طويلة إلحاق الأذى بأهلها. ويمثل هذا النجاح أيضا استمرارية في سياسة أميركية اتبعها الحزبان الديمقراطي والجمهوري على حد سواء، حيث أطلقت عملية السلام في عهد إدارة وأنجزت في عهد أخرى.

أما أفضل الرسائل التي يحملها هذا الإنجاز فتتعلق بطبيعة المهمة الدبلوماسية. لقد كان هدف التسريبات الأخيرة لموقع «ويكيليكس» الكشف عن أسماء دبلوماسيين أميركيين وفضح شرهم أمام العالم. حسنا، في ما يلي تسريب آخر، لكن من جانبي هذه المرة: إن أشخاصا مثل ماكدونو وميشيل غافين وسامنثا باور داخل البيت الأبيض، بجانب جوني كارسون وسكوت غريشن وبرنستون ليمان بوزارة الخارجية، يعمدون لاستغلال القوة الأميركية لخدمة هدف نبيل. وأنا أذكر أسماءهم (وليس منها اسم سري) لأنهم يمثلون كيف يمكن لمسؤولين حكوميين صياغة التاريخ بمهارة وفعالية وتحسين حياة الملايين وجني الفخر للبلاد التي يخدمونها.

* خدمة «واشنطن بوست»