عندما أكلت سمكة القرش عقول الناس

TT

في أحد شواطئ مدينة شرم الشيخ، ظهرت في المياه الضحلة سمكة قرش هاجمت عددا من السياح وأصابت سيدة روسية إصابة قاتلة. فتحركت على الفور أجهزة المحافظة، المحافظة على الناس والمحافظة على البيئة وأغلقت الشواطئ وبعدها بيوم واحد شاهدنا على الشاشات الصغيرة عددا من البشر على سطح مركب، يصطادون سمكة قرش كبيرة اتهمها المسؤولون بأنها السمكة المعتدية، وقالوا إن أحد شهود الحادث قد تعرف عليها، وأضافوا أن التشريح أثبت أن في معدتها آثارا من لحم آدمي. وبناء على ما تقدم، تم فتح الشواطئ مرة أخرى أمام السائحين بعد زوال الخطر. وفي اليوم التالي ظهرت سمكة قرش وهاجمت سائحة ألمانية وأصابتها إصابة بالغة. ولكن في هذه المرة لم تصدر بيانات تشير إلى أنها نفس السمكة الأولي، أو أنها سمكة أخرى. أنتقل الآن إلى تداعيات الحادث.

في المرة الأولى عندما قال المسؤول إن أحد شهود الحادث تعرف على سمكة القرش، بدأت ماكينة الشك بداخلي تدور على الفور، وهي ماكينة تفسد علي حياتي لأنها تدور محدثة ضجيجا عاليا في نفسي وعقلي عندما أستمع أو أقرأ أشياء لا معقولة. لو ألف شاهد ظهروا وقالوا: «هو ده القرش يا باشا اللي هاجم الست الروسية»، لما صدقت أحدا منهم. تستطيع التعرف على أحد النشالين الذين هاجموا راكبا في أتوبيس، كما تستطيع التعرف على سيارة شاهدتها ترتكب حادثا، ولكن بالله عليك، كيف يستطيع مخلوق أن يعرف أن قرشا ما هو بالتحديد من هاجم السيدة. أما حكاية تحليل أمعاء القرش فكل من يعيش في مصر يعرف جيدا الإيقاعات التي تتم بها الأفعال، الوقت كان مبكرا جدا لمثل هذا القول، لا بد في البداية أن يرسل جهاز البيئة في شرم الشيخ خطابا لرئاسته في مصر، فتحيله بدورها إلى المسؤولين عن البحار والمحيطات الذين سيحولون الخطاب إلى قسم القروش المفترسة لإرسال متخصص في التشريح ومعه متخصص في معرفة ماذا تناول القرش بالضبط في الساعات الماضية. وإذا سارت الأمور في مجراها الطبيعي فالأمر يستغرق أسبوعين على الأقل.

ننتقل الآن لردود الأفعال عند البشر العاديين غير المسؤولين لنتعرف على تفسيراتهم لما حدث. في إحدى الفضائيات قال أحد الغواصين إن إسرائيل هي التي أرسلت سمكة القرش المفترسة هذه لإفساد السياحة في شرم الشيخ. ثم نشرت جريدة «الأخبار» حديثا معه أوضح فيه وجهة نظره كاملة، وهي أن إسرائيل تقوم بتدريب أسماك القرش بعد أن تولد مباشرة، وأنه تركّب في رأس هذه القروش (شريحة GBS) لكي تتمكن من توجيهها إلى الهدف. الغواص خريج معهد السينما غير أنه أحب مهنة الغوص فاحترفها، ولو كان ما زال يعمل في إخراج الأفلام لأخرج هذا المشهد ببراعة «نهار /خارجي.. ضابط الموساد يتابع على المونيتور سمكة قرش ويوجه إليها التعليمات.. القرش خميشع.. هل تسمعني؟ اتجه خمس درجات إلى اليمين.. أنت الآن على وشك الوصول إلى الهدف.. الهدف قدامك دلوقت.. هي واحدة ست روسية.. إهجم.. برافو.. عد الآن إلى قواعدك.. هل تسمعني..؟».

من حق أي مخلوق أن يفكر بالطريقة التي يراها صحيحة غير أنني أعترض بقوة على محررة جريدة «الأخبار» لأنها عطلت عمدا ملكة التفكير النقدي عندها وبذلك أغرت القارئ بفعل نفس الشيء، هي لم تسأله، كيف عرفت أن رأس القرش مركب فيه جهاز الـ(GBS)..؟ هل أثبت التشريح ذلك؟ كيف عرفت سيادتك أنهم يربون هذه الأسماك المفترسة في إيلات؟ كيف تسربت إليك هذه المعلومة الخطيرة؟

غير أنها لم تسأله وكأنها توافق ضمنا على ما قاله وتطلب من القارئ أن يصدق ذلك. المهم أن لديه دليلا على أقواله وهو أن إسرائيل أصدرت تحذيرا منذ شهرين تطلب فيه من رعاياها ألا يسافروا إلى سيناء، هذا هو الدليل على أنهم هم الذين أرسلوا هذه السمكة المفترسة.

لا بد أن المسؤولين في مصر الآن أو بعضهم على الأقل بدأوا يكتشفون مدى التأثير السيئ الذي لحق بالعقل الجمعي في مصر نتيجة للإدانة الإعلامية الدائمة لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وما تفرضه من حقائق وواقع جديد. النتيجة الوحيدة لهذه الحملة هو ذلك الخوف المرضي الجماعي من قدرة إسرائيل على أن تفعل بنا ما تشاء. إنها المرة الأولى في التاريخ التي يشن فيها شعب ما على نفسه حربا نفسية من شأنها أن تقنعه في النهاية أن عدوه لن يستخدم ضده الطائرات والمدرعات فقط بل والأسماك والحيتان أيضا.

التفكير التآمري، هو المصطلح الذي يطلق على هذا النوع من الأفكار، غير أنني أزعم أن هذا المصطلح لا ينطبق على ما تقدم. إنه نوع من التفكير السائد يعكس رغبة قوية في عدم الاهتمام بأي شيء، وهي رغبة متنكرة في هيئة الخوف من العدو الإسرائيلي. إنها انعدام الرغبة في الفعل والحرص على التقوقع داخل الذات. وهو ما يسلم الإنسان في النهاية إلى أن يلجأ - في البداية - إلى الكذب على الآخرين ليتخصص في النهاية في الكذب على نفسه. وهذا هو أسوأ ما يمكن أن يصيب البشر، خديعة الذات هربا من مواجهة تحديات الحياة.

هذه الأكاذيب العامة والذاتية ليست وليدة اللحظة، فجذورها قديمة، في بداية خمسينات القرن الماضي كان هناك برنامج إذاعي اسمه «مطبات على الهواء» يبدأ بمشهد تمثيلي ينتهي بالبطل وقد ضبط متلبسا بمصيبة أو تهمة أو جريمة ثم يطلب المذيع من الجمهور الحاضر في الاستديو أن يخرج منهم شخص يبرئ نفسه من هذه التهمة بكلمات (أكاذيب) مقنعة ليتخلص من هذا المطب.

الجمهور هو الحكم، عندما لا يوافق على أكاذيبه وتبريراته، تنطلق زمارة استهجان، وعندما يجد أن أكاذيب هذا الشخص، محترمة ومبدعة، وناجحة في تخليصه من هذا المطب، يصفق له و.. دقي يا مزيكة.

هذه هي الجذور أو بعضها، أكثر الناس قدرة على الكذب والخداع في حياتنا المعاصرة هو النموذج، هو المثال الجيد للبشر، هو البطل القادر على الإفلات من المطبات. عدد المطبات في الشارع ليس أقل من عدد المطبات في حياة البشر، وهم في حالة خوف تمنعهم من التفكير في ردم هذه المطبات وتسوية شوارع حياتهم ليتمكنوا من السير عليها باطمئنان، لذلك يتفادونها بالدوران حولها بالأكاذيب والخداع. اسمح لي أن أكون كاتبا جيدا فأقول: أليس أنور السادات هو المسؤول عن ظهور القرش المفترس عندما استعاد سيناء؟ هل كانت هناك شرم الشيخ بشواطئها وقروشها قبل ذلك؟