عالم بلا أوروبا

TT

أضحى التنبؤ بالتراجع المتزايد لأهمية أوروبا على المستوى الدولي مألوفا كالانتقادات اللاذعة لقرارات الاتحاد الأوروبي الغريبة.

وفي الحقيقة، يوجد توافق في الآراء بين المراقبين على أنه في غضون عقود قليلة سيتراجع ثقل الاقتصادات الأوروبية إلى أقل من نصف ما هو عليه اليوم.

كما غدا من الصعب على نحو متزايد، خلال السنوات الأخيرة، إيجاد قرار صادر عن الاتحاد الأوروبي يستحق الإشادة. لقد أصبح المشروع الأوروبي اليوم كبرنامج للتوظيف المهني للطبقة الوسطى أكثر منه برنامجا مثاليا يبث الأمل ويشعل النشاط بين أبناء القارة.

إن عجز أوروبا عن التصدي بفعالية للأزمة الاقتصادية ليس سوى عرض لمشكلات أعمق. لماذا واجهت أوروبا أكثر العواقب إيلاما واستمرارية للأزمة المالية العالمية؟

لقد وصلت الأزمة الآن إلى آيرلندا ومن المحتمل امتدادها إلى اقتصادات أوروبا الضعيفة الأخرى مما يزيد من حالة التشاؤم التي تسيطر على القارة. وكتب جدعون راتشمان في صحيفة «فاينانشال تايمز» قائلا: «أفضل تخمين لدي الآن، هو أن العملة الأوروبية الموحدة سوف يتم إعدامها والتخلي عنها - وألمانيا هي التي ستقوم بهذه الخطوة». وكلام راتشمان يعني أن الأزمات المالية المتلاحقة وعمليات الإنقاذ التي ستتطلبها سوف تجعل صبر ألمانيا ينفد، وعندئذ ستشعر ألمانيا بأنها في حل من التزامها التاريخي بـ«بناء أوروبا».

كما يمكن أن يشكل انهيار النظام النقدي الأوروبي ضربة لا يمكن أن يتحملها الاتحاد الأوروبي. وسيكون هذا أمرا سيئا لأوروبا بصورة واضحة.

لكن الأمر الأقل وضوحا هو أن عالما من دون أوروبا متكاملة وذات نفوذ سيكون عالما سيئا للجميع. لقد كانت أوروبا نموذجا لقيم ومعايير ضرورية أصبحت نادرة في عالم اليوم. وسوف يؤدي التراجع الاقتصادي والسياسي للقارة القديمة إلى تراجع تأثيرها الإيجابي على الآخرين.

ونحن نعلم رفض أوروبا الحالي للحرب، والذي جاء كإرث للحربين المروعتين اللتين شهدتهما في القرن العشرين. ونعلم أيضا كيف يعامل بازدراء النهج السلمي لأوروبا من قبل أولئك الذين يخلطون بين رفض أوروبا الحرب والضعف أو ما هو أسوأ. ولكن عالم به قارة تفضل أن تخطئ وهي تحاول تجنب الحروب أفضل من عالم لا تمانع فيه القوى العظمى في أن تخطئ ومن أجل شن «حروب وقائية».

إذا بدأت حكومة في آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية في انتهاك حقوق الإنسان، من خلال «اختطاف» المعارضين السياسيين واعتقال الصحافيين، فمن هو الصوت القوي على الساحة الدولية الذي تريد أن تسمعه؟ الحزب الشيوعي الصيني؟ بوتين روسيا؟ أم أوروبا؟

وفي حين كانت الولايات المتحدة، خلال العقد الماضي أو ما قبله، تسمح بسلبية بعمليات إعادة توزيع ثروة المواطنين لتنتقل ممن هم أكثر فقرا إلى من هم أكثر ثراء وفي حين تحتفي روسيا والصين بطبقة النخبة التي تجمع بين أيداها ثروات البلاد بصورة لا يمكن تصورها، فإن أوروبا لا تزال ترفض بشدة هذه الصورة من عدم المساواة.

أيهما تفضل: عالما يعيش فيه 5 في المائة من السكان يسيطرون على 95 في المائة من الثروات في حين يظل الباقي فقراء ومستبعدين أم عالما تسيطر عليه طبقة وسطى كبيرة متزايدة وذات نفوذ سياسي؟ ولا تزال أوروبا تسعى جاهدة لتحقيق السيناريو الثاني.

ونظام الرعاية الاجتماعية في البلدان الأوروبية يتميز بالسخاء الكبير لكن لم يعد بمقدور الكثير من هذه البلدان تحمل أعبائه. لكن النموذج الذي يعاني فيه الملايين من نقص الرعاية الصحية أو يتركون للفقر بعد بضعة أشهر من فقدانهم لوظيفتهم أو عندما يكبرون في السن أو يعانون من عجز فهو غير قابل للاستمرار على المدى البعيد.

على الرغم من أن مساعدات التنمية التي تقدمها أوروبا إلى البلدان الفقيرة غالبا ما تكون غير فعالة، لكن التزام أوروبا تجاه القضايا الإنسانية قلما تجد له نظيرا. وفي حين يزدهر التطرف الديني ويقسم الأمم والمجتمعات في كل مكان، فإن التزام أوروبا بالنهج العلماني وتسامحها مع كل الأديان لا يزال متجذرا في قارة كانت أخصب أرض للحروب الدينية.

إن العولمة تؤدي إلى الانتشار السريع لمشكلات يتطلب علاجها تنسيقا وتعاونا بين الكثير من الدول.

والتجربة الأوروبية المتعلقة بالحكومة الموحدة هي أكثر التجارب طموحا في هذا الاتجاه، وفشل هذه التجربة سيدفع الكثيرين إلى استبعادها أو الامتناع عن تنفيذ شيء مشابه لفترة من الزمن. وخسارة هذا الوقت الثمين في البحث عن سبل للتنسيق بين الدول المختلفة هو من الرفاهية التي لا نملكها في هذا الوقت الذي تتطلب فيه التحديات العالمية الكثيرة قرارات موحدة وحاسمة بصورة سريعة.

لا أدري إن كان مشروع التكامل الأوروبي الطموح سينجو من التحديات الهائلة التي يواجهها حاليا أم لا. ولكنني أدرك أنه إذا فشل فإن العالم كله سيحمل العواقب.

* مشارك بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ووزير سابق للتجارة والصناعة في فنزويلا في أوائل تسعينات القرن الماضي.

* خدمة «نيويورك تايمز»