انسوا الموقف من المحكمة الدولية.. لقد انتهى الوطن!

TT

«إلى الذين يؤرقهم التوق إلى العدل.. وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل.. إلى هؤلاء وأولئك أسوق هذا الحديث...»

(طه حسين في إهداء «المعذبون في الأرض»)

لا أدري ما إذا كانت هذه الكلمات تأتي متأخرة عن وقتها، إلا أنه غدا من الواجب مواجهة حقائق مؤلمة قد لا نستسيغها. فالتطورات في ضوء العجز الأميركي - المعلن بصورة غير مسبوقة - عن «إقناع» الحكومة الإسرائيلية بمجرد تجميد الاستيطان مؤقتا، تدفع منطقة الشرق الأوسط دفعا نحو «سيناريو» مظلم. أما أخطر ما في هذا العجز فكونه يشكل عمليا «إشارة الانطلاق» لخطوات تغييرية راديكالية إقليمية يظهر أن لا واشنطن ولا تل أبيب تقف حقا ضدها.. حتى يثبت العكس!

يوم الجمعة الماضي قدّم حزب الله اللبناني نموذجا بليغا لمثل هذه الخطوات، عبر خطاب معبّر ألقاه باسمه السيد محمد رعد، رئيس كتلة الحزب في البرلمان اللبناني، في مناسبة عاشورائية. وفي ما يلي فقرة مقتطفة من الخطاب، تتعلق بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان:

«الوقت بدأ يقصر وقد أدلينا بما لدينا من حجج وبراهين كي لا يبقى لأحد ذريعة. موقف الحسم أصبح يقترب وعلى الجميع أن يراجعوا حساباتهم في ضوء رؤيتهم للمصلحة الوطنية ولمصلحة شعبهم. نحن نضع معادلة. المتعاون مع الظالم ضد المقاومة عليه أن يراجع حساباته. يوجد فرصة حاليا قد تمتد يومين أو ثلاثة أو أربعة، عليهم أن ينتهزوا هذه الفرصة، وإذا حان الوقت للموقف الحسم، فلبنان سيدخل مرحلة جديدة، نحرص على أن يكون هؤلاء قد راجعوا حساباتهم قبل فوات الأوان».

إنه كلام واضح يفصّل ما سبق لـ«الحزب» أن ذكره غير مرة، عن أنه لا يقبل أن يكون اي عضو فيه موضع شبهة ولا أن يكون هدفا لاتهام، وأن المحكمة «إسرائيلية»، وأن تأسيسها لا يقوم على أسس شرعية وقانونية. لكن الجانب المثير عند قراءة هذا الكلام، والاستماع إلى النبرة التي نُطق بها، هو أنه يخرج الجدل السياسي الراهن في لبنان كليا من مسألة المحكمة، في حد ذاتها، ويدخله إلى مسألة أكثر أهمية بكثير.. تتعلق بنظرة «الحزب» إلى موقعه داخل النسيج اللبناني، أو فوقه، أو على حسابه!

ما قاله رعد، في الواقع، رسالة شافية وكافية إلى كل لبناني تعذر عليه، أو لم يشأ، حتى الآن فهم طبيعة «الحزب»، وما يمثل، وكيف يُعرّف «السيادة» وأصول الحكم، ويرى مبادئ التعايش والمواطنة.

فـ«الحزب»، وفق النائب رعد، ليس طرفا متقاضيا تحت خيمة القانون - كسائر اللبنانيين - عليه أن ينتظر الاتهام من غيره، بل هو «القاضي» الذي يقرر صلاحية «الحجج» و«البراهين» وما إذا كانت مقنعة أو كافية.. أم لا. ثم بالإضافة إلى دور القاضي، هو أيضا «الجلاد» الذي يتولى تنفيذ الأحكام - الصادرة عنه - بحق من سبق له أن حكم عليهم بخيانة «الوطن»، الذي هو في هذه الحالة.. «المقاومة»!

بل هو أصلا «المحكمة» الصالحة وحدها للتعامل مع قضايا قد تمس، أو لا تمس، بحزب مرجعيته دينية فوق كل المرجعيات الزمنية، بما فيها الأمم المتحدة والقانون الدولي.

ثم إن «الحزب» ما عاد شريكا في وطن مثل باقي الأوطان، تتعدد فيه الآراء والأحزاب والطوائف والعادات والتقاليد والمفاهيم، لأن «المقاومة» - بالمعنى الذي اعتمده «الحزب» طبعا - أضحت هي «الوطن». وبالتالي، انحصرت «المصلحة الوطنية» في نظرتها هي إلى نفسها وإلى مصالحها.

وهناك جانب آخر لا يقل إثارة في موضوع «الوطنية» بالذات، هو قلة حماسة «الحزب» للتعليق على الاتهام الموجه إلى أحد أركان «التيار العوني» بالتجسس لمصلحة إسرائيل، مع أنه كان ولا يزال سباقا إلى توزيع تهم العمالة لإسرائيل، حيث تدعو الحاجة. وفي أواخر الأسبوع الماضي، صدر القرار الاتهامي ضد المتهم «العوني» عن القضاء العسكري اللبناني، ومع ذلك ارتأى «الحزب» أن القضية لا تستحق إدانة سريعة. ولعل هذه «الانتقائية» في التخوين وهدر الدم رسالة أخرى يوجهها «الحزب» إلى شركائه السابقين في ما كان «وطنا للجميع»، قبل أن يصبحوا طارئين على «وطنه».

نعم. تجاوز لبنان الآن حتى معركة إلغاء المحكمة الدولية والدفاع عن العدالة، وانتقل إما إلى «دولة حزب الله»، أو الى إلى مشروع دولة قيد التأسيس.