ما أكثر ما ورّطتني أذني

TT

صحيح أن آفة الأخبار رواتها، وأصح من ذلك أن آفة (الآذان) سرعة سماعها والتقاطها الكلمات دون أن تتيقن من معناها.

ومحسوبكم يمتلك على جانبي رأسه هذا الصنف أو النوع من (الآذان)، وهو ما يوقعني في كثير من الأحيان بإحراجات أو مشاكل أنا في غنى عنها، ولكنني أظن أن هذا هو قدري الذي لا أستطيع أن أحيد عنه.

لهذا فتعاطفي مع أذني ليس على ما يرام، ولا أكن لها احتراما كبيرا، وهي تقع في آخر القائمة والاهتمام من أعضائي العملية الأخرى، سواء كانت العين، أو الأنف، أو اللسان، أو، أو، أو، إلى آخره.

هذه المقدمة المختصرة كتبتها لضيق في صدري، بعد أن تورطت في (مطب) سببته لي (أذني) ـ الله لا يعطيها عافية.

فما إن عدت من سفرة قصيرة خاطفة، حتى عرفت أن (فلانا) قد توفي، وهو رجل مجتمع معروف، وفوق ذلك هو شيخ على جانب كبير من الورع والتدين والذكر الحسن.

وبحكم أنني أعرف أبناء ذلك الشيخ، فوجدت أنه من المستحسن أن أسارع بتقديم العزاء في منزلهم الكبير، رغم أن اليوم كان الثالث والأخير في العزاء.

ووصلت إلى هناك، وقبل أن أدخل الفناء المكتظ بالناس، وإذا بأخ مصري أعرفه ويعرفني، وهو يعمل مع الشيخ منذ عشرات الأعوام، فسلمت عليه وقدمت له عزائي، وأخذ يحدثني عن المرحوم وعيناه مغرورقتان بالدموع، وفي معرض حديثه سمعت منه كلمة فحواها أن الشيخ قد أوصى أن يدفن في (الغردقة).

دخلت وجلست مستمعا مع الحاضرين لقراءة القرآن الكريم، وفي النهاية بعد أن انفض مجلس العزاء، جلست مع الابن الأكبر محاولا التخفيف عنه، وتطرقنا إلى تاريخ ومآثر الرجل، وفجأة سألته مستغربا: لماذا أوصى المرحوم أن يدفن هناك بالذات؟!

قال: لأنه لن يجد مكانا أفضل منه.

قلت له مجاملا: فعلا معاه حق، فأنا ذهبت إلى هناك ومكثت أربعة أيام بلياليها واستمتعت (للماكسموم)، ولم أكد أكمل استطرادي بالحديث حتى أمسك بقبضته على ذراعي وأخذ يهزني بعنف قائلا: يا مشعل أيش فيك؟ اصحا. رأسك فيه شيء؟! ما هذا الكلام الذي تهذي به؟!

قلت له: إنني فعلا ذهبت إلى (الغردقة) على ساحل البحر الأحمر قبل عدة أشهر، إيه المشكلة يعني؟!

قال: وما دخل والدي المرحوم بالغردقة؟!

قلت له: إن الأستاذ (فلان) رفيق والدك هو الذي أخبرني أنه أوصى أن يدفن هناك.

عندها ضرب على جبهته بعد أن تبين له الالتباس، فأطلق ذراعي قائلا: إن أبي - رحمه الله - أوصى أن يدفن في (الغرقد) ـ أي بقيع الغرقد، هل تعرف أين هو الغرقد؟! إنه بجانب قبر رسول الله. هل تعرف ما هو الغرقد؟! إنه قطعة من الجنة، وأول من يبعثون يوم القيامة يبعثون منه. هل تعرف من دفن في الغرقد؟! دفن الصحابة، ودفنت فاطمة، ودفنت أمهات المؤمنين.

وتأتي أنت الآن لتتبلا على والدي الصالح وتزعم أنه أوصى بأن يدفن في (الغردقة)؟! سامحك الله على ما اقترفته، سامحك الله.

اشتد بي الخجل والأسف. وقلت له: أرجوك المعذرة، فالحق على أذني التي سمعت تلك الكلمة دون أن تتفحصها، ويا ليتني قد قطعتها قبل أن تورطني هي بذلك.

ورحم الله والدك وأسكنه فسيح جنّاته.

[email protected]