التارك كل الأشياء

TT

في مثل هذا العام، منذ مائة عام على وجه الضبط، حزم الكونت ليو تولستوي حقائبه، وترك منزله، واتجه إلى محطة استوبوفو، ليستقل قطارا ينقله بعيدا عن زوجته، سونيا. أصيب في المحطة بنازلة «حمى»، فاستدعي له الأطباء والأصدقاء، وتحولت غرفة مدير المحطة إلى مستشفى. عبثا حاولت سونيا الدخول للتحدث إلى زوجها. ناحت وبكت وتوسلت، وعبثا توسلت وبكت وناحت. احتضر أشهر رجل في روسيا، في محطة قطار.

خلال 82 عاما عاش تولستوي يترك الناس والأشياء. ترك ألقاب النبلاء وثيابهم وارتدى ثوب الفلاحين. وترك مأكل النبلاء وصار يأكل النبات والبقول. وترك العاصمة وبهرجتها إلى الريف. وترك صداقة كبار الأدباء الروس ليصادق الفلاحين. وترك الكنيسة فألقت عليه «الحرم». وترك الولاء للقيصر من أجل الولاء لروسيا.

كان تولستوي في الثلاثينات من العمر، عندما كتب ملحمة روسيا الكبرى «الحرب والسلم». وبينما كان يوزع ثروته على الفقراء كان يكدس للأدب الروسي ثروة أكثر لمعانا من ذهب مناجمها. وترك لمحبي الكتب في العالم مؤلفات حارقة مثل البخور، لها رماده، ولها عطره وسحره وأثره، في النفس وفي الحواس.

أحيانا أكرر نفسي في ما أكتب أو أروي. وإنني أعتذر من القراء الذين ينبهونني إلى ذلك، ومن أولئك الذين اكتفوا بالانتباه. واسمحوا لي أن اكرر، في مئوية تولستوي، أن القرن التاسع عشر في روسيا، كان في حجم أربعة قرون من الأدب الفرنسي. وقد ظلت روسيا زمنا ممنوعة من اتباع الأنبياء، فاستعاضت بتمجيد الكتاب والشعراء. حاول أن تطلب من سائق تاكسي في موسكو أو نادل مطعم، أن يلقي عليك شيئا من شعر بوشكين. حاول أن تبحث مع صحافي روسي في مؤلفات دوستويفسكي. جميعهم في ذاكرة الناس والطبقات.

لقد حاول لينين، بخطبه شبه اليومية، أن يتخذ لنفسه مكانا ما إلى جانب الأدباء الذين سعى إلى تقليدهم واستعارة تراثهم الرائع. لكن قطار الأدب كان قد توقف في استوبوفو، المحطة الأخيرة، حيث نزلت الحمى بصاحب «موت إيفان إيلييتش» و«آنا كارنينا» و«قوى الظلام». بما تميز أدباء روسيا؟ بالشجاعة والأنفة. وإلا كيف يقرر بوشكين أن يموت في مبارزة قاضية؟ وكيف يعلن تولستوي خروجه من الكنيسة وهي في عز قوتها؟ وكيف يواجه دوستويفسكي السجن، قبل أن تدرك روسيا أنها تقدم للأدب العالمي أعظم روائي في التاريخ؟

أراد لينين التقرب من الشعب الروسي، فوضع أطروحة تقول إن أفكار تولستوي مرآة للثورة البلشفية. وملأ النظام السابق الساحات وباحات المدارس بتماثيل الكونت الذي ترك كل شيء من أجل أن يكون ضمير روسيا الأكبر والمجرد. وعندما يريد الروس المفاخرة بحب روسيا، لا يعددون مقاطعاتها، بل آباءها، خصوصا هذا النبيل الذي تركته روحه بعدما ترك كل شيء.