حكمة العام

TT

تم نشر عدة مقالات في أعقاب الزلزال المدوي الذي أحدثته تسريبات موقع «ويكيليكس»، وتمت مناقشة وتفسير الوثائق المنشورة من زوايا مختلفة. هناك قول مأثور وهو «كل الطرق تؤدي إلى روما»، وما يحدث هذه الأيام أن كل المناقشات السياسية تؤدي إلى «ويكيليكس». هناك مجموعة متنوعة من الأفكار بشأن هذه الوثائق، فعلى سبيل المثال في إيران تعتقد الحكومة أن المسألة ما هي إلا مؤامرة من تدبير الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات الأميركية.

يمكننا أن نستمد من موقع «ويكيليكس» بعض المعلومات التي توضح وجود انعدام ثقة واضح أو انعدام ثقة كلي بين الحكومة الإيرانية وحكومات الدول العربية في المنطقة على أقل تقدير، وأود أن أركز في هذا المقام على ما قاله رئيس الوزراء القطري عن إيران.

طبقا لإحدى الوثائق التي نشرها موقع «ويكيليكس»، شبه حمد بن جاسم، رئيس الوزراء القطري، في اجتماع مع مسؤولين أميركيين، العلاقة بين قطر وإيران بأنها علاقة «تكذب فيها إيران علينا ونكذب فيها عليهم».

وقد أشار طارق الحميد، في مقاله المنشور في 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، إلى أن قول الرئيس الوزراء القطري قيم لدرجة تؤهله لأن يكون حكمة العام، وأود من هذا المنطلق أن أركز على سؤال مهم ألا وهو: ما هي العلاقة بين الأكاذيب والسياسة؟ وأريد التمييز بين ثلاثة أنماط من الأكاذيب في السياسة..

النمط الأول هو أن السياسيين يكذبون على بعضهم بعضا، فمثلا عندما يتحدثون مع المسؤولين الأميركيين يقولون «نحن مع الولايات المتحدة وندعمكم تماما»، وعلى العكس من ذلك عندما يتحدثون مع المسؤولين الإيرانيين يقولون «نحن مع إيران».

يقول ميترنيخ: «لقد منح الله لسانا للإنسان ليتحدث عكس رغبته»!.. ويقال إن السياسيين يتحدثون بألسن خشبية أو بلاستيكية، فألسنتهم في جانب بينما قلوبهم في جانب آخر، أعني أن هناك تناقضا بين ألسنتهم ورغباتهم، وهو ما يشير إليه القرآن بالنفاق. وأعتقد أن هذه الأنماط من الكذب مقبولة، وأنا بذلك لا أبرر الكذب، بل أتحدث عن الواقع والحاضر الذي نعيشه.

النمط الثاني من الكذب هو الذي يكون بين الحكومة والشعب. مع الأسف هناك مرض مستشر في الشرق، خاصة في الأنظمة الاستبدادية، وهو أن أكبر كذبة هي زعم الحكومة أنها ممثل للشعب، فنحن نشاهد سلسلة طويلة من الأكاذيب. على سبيل المثال في إيران حاليا هناك فجوة كبيرة بين الحكومة وأغلبية الإيرانيين، ومع ذلك تزعم الحكومة أنها شرعية وممثل للحقيقة المطلقة، حيث تزعم أنها تمثل نبي الإسلام والإمام علي، وقد بدأوا يطلقون لقب الإمام مؤخرا على آية الله خامنئي، فأصبح الإمام علي لأن اسمه علي. ولذلك، فإن جميع السياسيين والمفكرين والفنانين الذين ينتقدون الحكومة هم في حقيقة الأمر ضد الإمام علي، وبالتالي هم مؤيدون للفتنة. ومن الأمثلة الأخرى، أن أحمدي نجاد زعم أنه عندما كان يتحدث، خلال اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة، أحاطت به هالة من الضياء. وزعم أنه كان في بؤرة الضوء، وقال لآية الله العظمى جوادي أمولي: «إنني لا أبالغ، فقد كنت أشعر حقا بأنني محاط بالضوء»، ورد عليه جوادي قائلا إنه على كل مسلم أن يتجنب الكذب بناء على تعليمات سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم).

يتذكر كافة الإيرانيين، أقصد جيلي والجيل الذي يسبقه، قول آية الله الخميني الشهير في مقابلة أثناء وجوده في باريس إنه لا يريد أن يكون حاكما، فهو سيذهب إلى قم ويمكث هناك كطالب علم. ويبدو لي أن كل الثورات بدأت بحلم، حيث تبدأ عندما تعتقد الشعوب أن هذه الأحلام مرآة للواقع، لكن بعد عقد أو عقدين يرون الوجه الآخر للثورة؛ الكذبة الكبيرة.

النمط الثالث، وأسوأ الأنماط جميعا، هو الكذب على العالم، وهي الكذبة التي تقف كمبرر رئيسي يتخفى وراءه التخطيط لشن حرب ضد الشعوب. أصبحنا نعلم جميعا أن الحرب ضد العراق كانت مخططة سلفا استنادا إلى كذبتين أساسيتين.

وقد أقر كل من توني بلير وجورج بوش في مذكراتهما الأخيرة غياب أي دليل يشير إلى وجود أسلحة دمار شامل في العراق أو أي صلة بين تنظيم القاعدة وصدام حسين.

ويقول جورج بوش إنه شعر بالإحباط والأسف عندما فشل الجيش الأميركي وحلفاؤه في العثور على أسلحة دمار شامل في العراق، فأقنع هو وتوني بلير نفسيهما بالتبرير بأن العالم من دون صدام حسين أفضل. ويصف بلير في الفصل الثالث عشر بعنوان «رحلة» الصعوبة التي واجهها في تبرير الحرب على العراق، حيث كتب: «كان سؤالا رئيسيا ويجب أن تكون له إجابة رئيسية، والإجابة كانت بنعم، وكنت أعرف النتيجة»، ففي النهاية يقدم بلير اعتذاره عن الحرب وذلك في الفصل الذي يحمل عنوان «رحلة»، صفحة 373. لقد بذل توني بلير قصارى جهده لتبرير كذبته الكبرى، لكنه فشل، فمن يمكن أن يقبل تحمل المسؤولية عن موت آلاف الأطفال العراقيين نتيجة لعدم توفر الغذاء واللبن والدواء أثناء الحرب وهجرة ملايين العراقيين من وطنهم بعد الحرب، وقتل أكثر من سبعة آلاف أميركي؟ هذه هي حقا الكذبة الكبرى المثمرة. السؤال الآن هو: لماذا يكذبون؟

الإجابة بسيطة، وواضحة كوضح النهار، وهي النفط. كان للراحل عبد العزيز التويجري، وهو أحد الرجال الحكماء الذين التقيتهم، كتاب رائع بعنوان فريد هو «عزيزي النفط.. ماذا فعلت؟».