إذا قالت

TT

من يتابع أمور لبنان، ولا أقول أحداثه، أي يتابع التصريحات والمقابلات والتحليلات، وأقوال «المصادر الموثوقة» وتلك «المطلعة» أو «المسؤولة» أو «المقربة»، يخرج كل نصف ساعة بانطباع، وكل ساعة برأي، وكل ساعتين بقناعة. وعلى مدى الأيام، يخرج حتما بانهيار أعصاب. وليس أسهل من تأكيد الخبر، في لبنان، سوى نفيه. فبعد يوم واحد ينسى الناس الخبر والتأكيد والنفي. ولم يعد مهماً في وسائل الإعلام، إن هي نقلت، أو أكدت، أو نفت. وبدلا من أن يكون «كل لبناني خفيرا»، فإن كل لبناني شائعة أو تهمة أو كذبة أو تلفيقة. إما كمصدر، وإما كضحية. واعتاد الناس مناخ التهم، وأبسطها العمالة لإسرائيل أو العمل لأميركا. وهكذا لم يعد يطلب من أحد أن يعتذر أو أن يتراجع عما قال. وفي الماضي كان يقال: «الكذب ملح الرجال». وصار الآن خبز الرجال والنساء. ومن يقع بين الخانتين.

يتولى توزيع السموم اليومية على اللبنانيين سياسيون و«إعلاميون» وصحافيون وإذاعات وتحليلات وتلفزيونات. ويعقب على هؤلاء كلهم عسكريون أو سياسيون من إسرائيل، مؤكدين أخبار السوء وتحليلات البلاء. ولا مفر. هناك فقط حل جزئي، وهو أن يقرأ المرء الصحيفة التي يثق بها. ومنذ 50 عاما أقرأ «النهار» - وأعمل فيها - وأنا مطمئن إلى أنها لا يمكن أن تكذب علي ولا أن تحتقر عقلي أو أن تزدري مشاعري، أو مشاعر سواي. ولا يعني ذلك أنه ليست لـ«النهار» مواقف ومشاعر وسياسات. وقد دفعت ثمن ذلك غاليا طوال ثلاثة أرباع القرن، سجونا وشهداء. لكن مهما كانت المشاعر، حزنا أو فرحا، فهي غير مستعدة للتحول إلى سلاح، مجرد سلاح آخر، في حرب نفسية أو عسكرية أخرى. لذلك يحترم «النهار» الذين يحبونها والذين لا يحبونها. ويصدقها الجميع. وهي في ذلك أشبه بالـ«بي بي سي». فقد كان العرب يكرهون بريطانيا ولا يصدقون سوى إذاعتها؛ لأنهم يعرفون مدى خواء إذاعاتهم وبعدها عن الحقيقة. وكنت أعتقد أن هذا حال العرب وحدهم غير أنني قرأت، في كتاب وضعه مساعد رؤساء وزراء إسرائيل يهودا أفنر، كيف تلقى مناحم بيغن نبأ اغتيال أنور السادات: «اتصل به الجنرال بوران هاتفيا في منزله وقال له: إن السادات قتل. وفقد نفسه وهو يسأل: هل أنت واثق من ذلك؟ كنت إلى جانبه يملي علي بعض الأشياء. تطلع بي وقال: أدر الراديو لنسمع ماذا تقول الإذاعات الأخرى. بدأت أبحث عن المحطات في المذياع الذي على مكتبه. كانت إذاعة صوت أميركا تقول: إن السادات أصيب لكن حالته غير خطرة. وقالت إذاعة مونت كارلو: إن اثنين من مرافقيه قتلا أما هو فنجا. لكن الـ(بي بي سي) قالت: إنه قضى. فقال بيغن: إذا قالت الـ(بي بي سي) إنه مات فيعني ذلك أنه مات».