الكاتب الصحافي بين الاستقلالية والتبعية

TT

السياسي المحترف يجب أن يكون ملتزما بموقف. أو مبدأ. أو آيديولوجيا. لا أومن باستقلالية السياسي. فوضى السياسة، أو بالأحرى، كوارث السياسة، عندنا، نجمت عن تذبذب المواقف السياسية والآيديولوجية.

على النقيض، لا أومن بالتزام الكاتب الصحافي. الكاتب السياسي المحترف يجب أن يطل، على السياسة. المجتمع. الأحداث، من شاشة أعرض، من تلك التي يطل منها السياسي المحترف. كلما توسعت شاشة الصحافي، كان أقدر على الرؤية الأوسع. الرؤية الأشمل لقضايا عصره. الرؤية الأهدأ والأعمق لمنطق السياسة الأعوج.

ليست مهمة الكاتب السياسي والصحافي المحترف تغيير الدنيا، وهدم النظام. التغيير مهمة سلمية تتولاها الأحزاب الديمقراطية. الصحافي الذي يمارس الولاء المتزلف، أو المعارضة الصاخبة المستمرة، لا يفيد الصحيفة التي يكتب فيها. كلما التزم الكاتب بالموقف الناقد، وليس المعارض، كان أكثر فائدة للنظام السياسي. فمهمة الإعلام الوحيدة كشف مواقع الخلل أمام النظام والمعارضة.

في «القدس» اللندنية، ظهرت لي الأسبوع الماضي (عدد 4/12) مقابلة صحافية طويلة، مع وزير إعلام سوري سابق. يعترف الدكتور محمد سلمان بأنه ليس هناك «إعلام مستقل». ثم يضيف بأن مهمة الإعلام هي «الالتزام بتنفيذ سياسة النظام».

ذلك صحيح. غير أني أسأل النظام العربي: أين دور ومهمة الكاتب الصحافي الذي يتطلع إلى ممارسة حد أدنى من الاستقلالية (يتمتع به الكاتب الصحافي في العالم الغربي)، بعيدا عن التبعية المطلقة للنظام السياسي؟

هذه المراوحة الضيقة بين الاستقلالية (النظرية) والتبعية الإجبارية، ضرورية لعقلنة الإعلام العربي، ولجعله أكثر مصداقية. وإقناعا. وقبولا لدى الرأي العام. غياب هذه المراوحة حرم النظام السوري من إنتاج كاتب صحافي سياسي مبرز، في وقت كان الرئيس الراحل حافظ الأسد، بحاجة ماسة إلى كتاب ومعلقين سياسيين محترفين، بعدما نجح في تحويل سورية، من أداة، إلى لاعب في لعبة الأمم.

كان الصحافي الراحل أحمد إسكندر الاستثناء الوحيد. لكن لم يكد يثبت قدميه كمعلق متميز، حتى التقطه الرئيس الأسد ورسمه وزيرا للإعلام ليطبق «التزام الإعلام بتنفيذ سياسة النظام».

الطريف والغريب أن الوزير الأسبق سلمان مارس حدا أدنى من الاستقلالية، بانفتاحه على المثقفين والأدباء والصحافيين، لا سيما المهاجرين منهم. وأعترف هنا، بما قاله في المقابلة، بأن غسان يعرف أننا أعدنا له جواز سفره، تقديرا لما يكتب في «الشرق الأوسط» كصحافي ذي فكر متقدم، وأن غسان عاد إلى «وطنه» سورية.

بل أعترف بأن الرئيس بشار كرر، شخصيا، هذه الدعوة. فعل ذلك أيضا السفير الصديق إلياس نجمة. وتلطف وزراء الإعلام الذين تعاقبوا، بعد الوزير سلمان، بود الاتصال، أو السؤال عن الصحة. وبالفعل، عاد إلى سورية كثيرون. وفي مقدمتهم الصديق القاص الكبير زكريا تامر الذي جرى تكريمه، في دمشق بما يستحق من مكانة أدبية. وإن كنت أظنه قد عاد زائرا. ولعله ما زال مقيما في ضواحي لندن.

ما أعرف أن الدكتور سلمان يعرف أني لم أعد. ولم أزر دمشق. بل لعله يعرف أني لم أتسلم جواز سفري. فلماذا يتجاهل ما يعرف؟! إن كان لا يعرف حقا، فسأروي له مضطرا، ما جرى لي. ما منعني من العودة. أو من استرداد الجواز: في عام 1981، تم تسريح الموظفة الإدارية بالقنصلية السورية في باريس. فقد جددت لي جواز سفري، من دون تمريره على الأجهزة الأمنية. وجرى معها تحقيق طويل عريض في دمشق.

في عام 1985، تلقيت دعوة خطية للعودة، عبر صديق مشترك، من الصديق والزميل جبران كورية مدير المكتب الصحافي في القصر الرئاسي. وبالطبع، كانت الدعوة بعلم وموافقة الرئيس الراحل الأسد. لكن الضابط المسؤول عن أمن السفارة قابلني بجفاء، عندما طالبت بتجديد جواز السفر (1986). وألقى عليّ محاضرة، في فن التبعية والولاء.

لعل الدكتور سلمان يغرق في الضحك، عندما أذكر له أن الضابط الهمام كان يقف ويقعد مرارا وتكرارا، لأداء التحية العسكرية، كلما ورد اسم «القائد» في حديثنا. بل يذكرني ضابط الأمن بضابط ثوري عهد إليه الرئيس السادات بمحاكمة كبار الناصريين السلطويين. فاتهمهم بقراءة الفنجان. لكن بعد اغتيال رئيسه، أصيب الضابط الثوري بالهلوسة. كان يقعد. ثم يقوم فجأة، لأداء التحية العسكرية، «لروح» الرئيس السادات. أو لمصافحة في الفراغ مع شبح شيخه «سيدنا الخضر»!

سألني، يوما في باريس، الفريق ناجي جميل القائد الأسبق لسلاح الطيران: «نحن في دمشق نقرؤك. لكن لماذا لا تعود؟». وأردف بشهامة نبيلة: «أنا مستعد لأحمل طلبا منك. وأضعه بنفسي على مكتب الرئيس الأسد». سكت. لم أشأ أن أروي، للفريق، ما حدث لي مع جهاز الأمن.

في التسعينات، حاولت مرتين استلام جواز سفري الذي نجح الوزير سلمان، باستصدار أمر بإعادته إليّ. في المرتين، اشترط عليّ ضابطا أمن السفارة، الواحد تلو الآخر، التعاون والتعامل مع الأجهزة. عدت إلى الوزير شاكيا، عبر وكيل وزارته الصديق الراحل أديب غنم. تم نقل الضابط الأول. لكن ما لبث أن كوفئ، بترفيعه «عقيدا»، ونقله إلى منصب أمني أرفع.

في المرة الثانية، شكوت إلى السفير الصديق إلياس نجمة. فأبلغني أن الضابط الآخر أعيد إلى سورية تأديبا. ثم علمت أن رجال الأعمال السوريين سبقوني في الشكوى، من مضايقاته المتكررة لهم.

في هذه الأثناء أصدر العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز أمرا بمنحي جواز سفر سعوديا. ثم جدده لي خلفه العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز. ومنذ أسابيع قليلة، أمر الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية بتجديده لي للمرة الثالثة. جاءت مبادرة الإنقاذ، من أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز صديق الصحافيين، وذي الرؤية المتقدمة للصحافة.

النبل هو خدمتك لإنسان، ربما لست أنت بحاجة إليه. بلا شك هذا هو النبل في موقف القيادتين السياسيتين السعودية والسورية، من كاتب صحافي، يحرص على حد أدنى من الاستقلالية. لكن أجهزة الأمن السورية ما زالت تعتقد أن الصحافي المقيم أو المغترب يجب أن يرتبط برباط التبعية المطلقة.

وبعد، أهمس في أذن الصديق الدكتور محمد سلمان. لقد تلقيتُ نصائح متعددة: «لا تعد. سلطة الأجهزة الأمنية تبدأ حيث تنتهي مسؤولية الأجهزة السياسية». كنتُ محظوظا. نجوتُ في الخمسينات والستينات السورية من غرف التحقيق. خرجتُ سالما. بعد رحلة صحافية طويلة، قضيت ثلثيها في الغربة بأوروبا، لم يعد في سراج العمر زيت لرحلة العودة. ولا طاقة لحوار. فسؤال. فاستجواب. فتحقيق... مع ضابط أمن في كهف مظلم.

ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة

وسيف المنايا بين عينيه مصلت؟