انحدار أميركي وصعود إيراني

TT

كثيرون يعتقدون أن فضائح «ويكيليكس» ليست إلا زوبعة ستنتهي مع مرور الوقت. بينما أراها أعمق تأثيرا من المعضلات العسكرية والأمنية الأخرى التي تعرضت لها الولايات المتحدة؛ لأنها وجهت ضربة قاضية للثقة بمؤسسات الدولة العليا وفلسفة أمنها؛ حيث لا يمكن تصور حالة الفوضى في تدابير أمن المعلومات التي أثبتتها الفضائح.

من الآن فصاعدا، من سيقبل أن يكون جاسوسا لأميركا، إن لم يكن خارج حسابات المنطق ويعيش في حالة من التمرد؟ وهذا النمط من الناس يعتبر أقل الجواسيس فائدة لأجهزة المخابرات. ومَن مِن كبار المسؤولين في العالم سيكون مستعدا للحديث بصراحة وشفافية مع مسؤول أو دبلوماسي أميركي إن لم يكن مستعدا للتحدث أمام وسائل الإعلام بالمنطق ذاته؟ فأي نظام عشوائي وفوضوي منفلت هذا الذي تتبناه «أعظم» دولة في العالم؟ ومن يصدق أنهم قادرون على منع تكرار ما وقع؟

وثائق «ويكيليكس» أثبتت أن عمليات 11 سبتمبر (أيلول) لم تحدث إلا نتيجة عمالة أفراد يعملون في مؤسسات أميركية، أو بسبب خلل فظيع في قواعد الأمن. وإلا كيف تمكن غرباء من العالم الثالث من إحداث اختراق غير مسبوق؟ غير أن تلك الهجمات لم تضرب مفاصل الثقة بأميركا.

ليس المهم هذه البرقية أو تلك، وليس مهما من القائل وماذا قال، وليس مستغربا ممارسة الدبلوماسيين نشاطات تجسس؛ فالأمر الحاسم هو أن الجميع فقدوا الثقة بأميركا. والذين لا يتأثرون بما حدث هم المسؤولون الذين يتحدثون في العلن كما في السر.

كل ما نشر أو سينشر عن المواقف العربية تجاه إيران كان معروفا، بصرف النظر عما كان يعلن. ولم يخرج القادة العرب عن إطار المتوقع، بل كانوا دبلوماسيين في أطروحاتهم أكثر من اللازم. ولم يستخدموا لغة تحريض قوية، ولم يقدموا تعهدات بمساندة معينة لو أقدمت أميركا على فعل عسكري. وهذا ما قد يسبب لهم حرجا أمام من سيصدمهم تفجير نووي إيراني حتمي في يوم ليس ببعيد.

السيل المستمر من الوثائق سيعطي انطباعات واضحة عن السلوك الدبلوماسي الأميركي، وعن اهتمامات المؤسسات في مجال جمع المعلومات. وفي المحصلة تصبح خطط الاستخبارات واضحة، مما يساعد أجهزة مكافحة التجسس في دول الاهتمام في اتخاذ تدابير لغلق الثغرات الحالية. ويبدو أن «ويكيليكس» يتفادى نشر وثائق تتضمن مسميات محددة عن الجواسيس، لكن لا أحد يضمن عدم تداولها بشكل سري مع أطراف ودول معنية وفق صفقات غير معلنة.

من جانب آخر، لا أريد إحباط معنويات من يزعجهم الطموح الإيراني في بناء إمبراطورية عظمى.. عندما أصف إيران بالصاعدة، على الرغم من كل ما يقال عن خسائرها من جراء العقوبات، فمهما واجهت من صعوبات لن تصل إلى الوضع المالي الذي رافق البرنامج النووي الباكستاني. فقد تحولت إيران إلى منتج زراعي كبير، ولديها صناعات لا يستهان بها، وتجارة ضخمة، والمؤسسة الدينية تجني أموالا طائلة تسخرها بطرق أفضل من أي جهاز مخابرات. وشعبية النظام بين الفقراء في الأرياف وسلطة الباسداران تعززان سلطة المرشد، الذي تحيط به دوائر مطلقة الولاء، أما البحث عن الثغرات من قبل ضباط مخابرات شرق أوسطية فلم يعد مجديا، في ظل غياب القدرة على اتخاذ قرار بالفعل.

التهافت الأميركي يبحث عن أي سبيل لترويض إيران الرافضة للسلطة الأميركية، وما رفض متقي الرد على تحية هيلاري كلينتون في المنامة إلا تعبير عن الشعور بالقوة. ومن حالات التخبط الأميركي عدم القدرة على معالجة ملف «مجاهدين خلق»، المنظمة التي تملك قدرات فائقة في تحقيق تعبئة جماهيرية إيرانية كبرى في أوروبا، ولا بد أن تعكس الصورة واقعا في إيران.

لم تمر السياسة الأميركية في حالة من الضياع والخنوع كما هي عليه الآن. وقد أساءت الاستراتيجية العليا للدولة أسلوب استخدام أقوى قوة في العالم، وخذلت العسكريين باضطراب سياسي لا يحسدون عليه. وهاهي مؤسساتهم العليا تحاول منع موظفيها وجنودها من قراءة وثائق فضحت على مستوى العالم! ودولة قيادتها ضعيفة وأمنها مخترق وسياستها مضطربة لا يمكن وصفها إلا في حالة انحدار.