الحل البرازيلي للقضية الفلسطينية

TT

يبدو لي أن رأي الرئيس بشار الأسد في مسار المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية على درجة كبيرة من الصواب عندما انتقد الفلسطينيين لأنهم ربطوا بين التفاوض والمستوطنات، بينما كان الواجب هو التركيز على الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 أو الحدود التي تخطتها إسرائيل باحتلال أراض بالقوة المسلحة. ومن الناحية الدبلوماسية والسياسية فإن ذلك عطل المفاوضات وأعطى لحكومة نتنياهو الفرصة لتحقيق هدفين معا: استمرار الاحتلال، والتوسع في بناء المستوطنات في الوقت نفسه. ولتأكيد قوله هذا أكد الرئيس السوري على أن سورية لا تثير موضوع المستوطنات عند التفاوض مع الإسرائيليين، لأن الانسحاب من الأراضي المحتلة يعني بالضرورة زوال الاستيطان تماما كما جرى في مصر أثناء مفاوضاتها مع إسرائيل.

المشكلة مع الطرح السوري - مع سلامته المنطقية - أنه لم يؤد إلى تحقيق الانسحاب من المرتفعات السورية المحتلة، ومن ثم لم يزل الاستيطان وظل الحال على حاله لأكثر من أربعين عاما. ومعنى ذلك أن القضية برمتها تحتاج إلى منهج آخر مركب يسمح بتحريك القضية سواء على جبهة الجولان أو الجبهة الفلسطينية حيث الأرض لا تزال محتلة، والمستوطنات لا تزال تتوسع.

هذا المنهج يأخذ الفكرة السورية المصرية الأصلية، ويضيف لها فكرتين أخريين: واحدة عربية سبق لجميع العرب القبول بها وهي المبادرة العربية؛ والأخرى برازيلية جاءت من سان باولو وقوامها الاعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 4 يونيو 1967 على أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. الفكرة العربية تعني في جوهرها أن حدود يونيو 1967 ليست حدودا للدولة الفلسطينية فقط، بل هي أيضا حدود للدولة الإسرائيلية، أي إنها تطبيق جديد لقرار التقسيم وفقا للمتغيرات التي وردت عليها بعد حرب يونيو، ولكن لا شيء بعد، فهوية الدولة الإسرائيلية تخص دولة إسرائيل وليس غيرها، ولا يوجد ما يدعو أبدا للقبول الآن بفكرة تبادل الأراضي التي كانت سوف تحل لإسرائيل مشكلة 82% من المستوطنين. فقد أتيحت الفرصة لإسرائيل وأضاعتها باستمرار الاستيطان وتهويد القدس.

الفكرة ببساطة هو أنه طالما مضت على عملية السلام - منذ استئنافها - أربعة أشهر في الثاني من سبتمبر (أيلول) الماضي من دون نتيجة حتى الآن؛ بل أكثر من ذلك جرى دفن عملية السلام وحل محلها البحث عن وقف مؤقت لعمليات الاستيطان لثلاثة أشهر تحصل إسرائيل مقابله على ثمن فادح، ويعلم الجميع أنه لا يوجد لديها - كما لا يوجد لدى إدارة أوباما - الشجاعة لتغيير الوضع القائم، فليكن الوضع إذن هو خلق واقع دولي جديد جاء من البرازيل هذه المرة يقوم على دولتين تفصلهما حدود عام 1967 دون زيادة أو نقصان.

نقد هذه الفكرة واضح منذ الوهلة الأولى وهو أنه لن يغير من الأمر الواقع شيئا وكل ما سيفعله هو أنه سوف يوقف عملية السلام. ولكن عملية السلام متوقفة منذ بدايتها، ومنذ فقدت الولايات المتحدة القدرة على الوفاء بوعودها لوقف الاستيطان. وما دام الأمر أنه سواء كانت هناك عملية سلام أم لا فإن الاستيطان سوف يستمر بهدف تغيير الأمر الواقع، فإن الأكثر عملية هو تحريك العالم في موقف سياسي وأخلاقي تجاه الدولة الإسرائيلية تجعل ضمها للقدس الشرقية، والأراضي الفلسطينية دون أي تأييد قانوني.

المسألة هنا ذات طبيعة تصاعدية، وببساطة العالم لم يعد كما كان، ولا يوجد الآن من هو على استعداد للتضحية بمصالح الأمن الدولي بسبب دولة صغيرة لا يزيد عدد سكانها على سبعة ملايين نسمة 20% منهم من العرب الفلسطينيين. وما نحتاجه هو فكرة متكاملة واضحة تعترف بدولتين ضمن حدود واضحة ومعلومة بلا مداورة أو مماحكة وتأخذ طريقها من خلال منظمات معروفة من الجامعة العربية إلى منظمة المؤتمر الإسلامي إلى الاتحاد الأفريقي إلى دول مجموعة برشلونة إلى دول أميركا الجنوبية وكل الدول الصديقة والراغبة في سلام عادل وشامل وحقيقي، وهو ما يعرضه العرب بالفعل، حتى نصل إلى الأمم المتحدة وجمعيتها العامة ومجلس الأمن فيها.

نعلم منذ البداية ولأسباب تخصها أن الولايات المتحدة، وربما بعضا من دول الاتحاد الأوروبي، ودولا صغيرة هنا وهناك سوف ترفض هذا الاتجاه وتسعى إلى إحباطه بوسائل شتى. ولكن مثل ذلك هو جزء من عملية التفاعل والتفاوض بين الدول العربية والولايات المتحدة، ولم يكن الموضوع كلامنا وحدنا بل كان موقف أوباما في القاهرة عندما أكد على مركزية القضية الفلسطينية للأمن الدولي. ولا يوجد لدى العرب ما يطلبونه للتعاون من أجل الحفاظ على الأمن الدولي سوى حل القضية الفلسطينية بتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في الرابع من يونيو 1967. غير ذلك فإن على الولايات المتحدة حكومة وشعبا أن تعرف أن الدول العربية لا يمكنها أن تكون جزءا من هذه الحماية دون حل لمشكلة أساسية تقدم فيها الدول العربية اعترافا واضحا بالدولة الإسرائيلية ضمن حدود معلومة تجعلها دولة من دول المنطقة وليس إمبراطورية في قلبها تجثم على صدر شعب عربي.

ونعلم أيضا أنه بين العرب من يرون أن مثل هذا المنهج السياسي والدبلوماسي لا طائل من ورائه، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة. ولكن مثل ذلك ليس موضوعنا هنا، والاستراتيجيات العسكرية لا تتم مناقشتها في صفحات الصحف، ومن يطرحونها على أية حال عليهم معرفة أن الحل العسكري العربي لم يستخدم حتى الآن بنجاح إلا في تقسيم الساحة الفلسطينية إلى كيانين فلسطينيين.

رسالة البرازيل لا ينبغي تجاهلها أبدا في العواصم العربية المختلفة، ليس فقط لأن البرازيل لاعب دولي مهم، ولكن لأنها تمثل اتجاها جديدا في العلاقات الدولية تمثله دول مثل الأرجنتين والمكسيك والهند والصين وجنوب أفريقيا. هذه الدول جزء مهم من النظام الاقتصادي الدولي، وهي جزء من عملية الإنقاذ له من الأزمة الاقتصادية العالمية، وببساطة لديها أوراق مهمة تستعد لاستخدامها لأنها ببساطة لا تريد للأمن الدولي أن يتعرض لأخطار بالغة تتعرض فيها إمدادات النفط للتخبط، وحركة التجارة للاعتراض بأشكال مختلفة. فإذا كانت الولايات المتحدة لأسباب تاريخية وسياسية لا تستطيع تنفيذ ما وعدت به الدول العربية فإن هذه الدول لا توجد لديها عقد تاريخية، ولا أثقال أخلاقية تفرض عليها السير في الركاب الإسرائيلية مهما كانت طاغية أو باغية.

الحكمة هنا أن الرسالة البرازيلية جاءت من حيث لا يحتسب أحد، لأن النظام الدولي يتغير بأسرع مما نتخيل أو نتصور، وفي كل نظام دولي هناك أخطار ينبغي تجنبها، وفرص يجب أن لا تضيع. ما نحتاجه هو حكمة وعزم قادة لوضع حزمة متكاملة تحول الفرصة إلى واقع.