أكراد العراق.. زمن الدولة القومية انتهى!

TT

خلال المؤتمر الأخير للحزب الديمقراطي الكردستاني، طالب رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني بإعطاء الأكراد حق تقرير المصير، قائلا إن «المرحلة تنسجم» مع ذلك. خطاب كاكا مسعود كان بحضور الرئيس العراقي جلال طالباني، ورئيسي مجلسي الوزراء نوري المالكي، والنواب أسامة النجيفي. حضور الحفل لم يعلقوا، ولكن تصريحات من المسؤولين في بعض الأحزاب إما سارعت إلى الاستنكار تحت ذريعة خطر تجزئة العراق، أو لجأت إلى التقليل من شأن هذه المطالب بدعوى كونها غير واقعية، ومخصصة للاستهلاك الكردي الداخلي كما قال خالد الأسدي من ائتلاف دولة القانون. ولعل السؤال المشروع هنا: هل استقلال كردستان ينسجم فعلا مع المرحلة الراهنة؟

بودي أن أختلف مع كاكا مسعود في هذه القضية، وكذلك مع النخبة السياسية الكردية التي باتت منذ 2003 تنتج خطابا متناقضا بعض الشيء حيال رؤية الأكراد للعراق الجديد مما جعل بقية العراقيين ناهيك عن دول الجوار متشككين في المواقف الكردية. من المهم قبل الخوض في ذلك التأكيد على عدد من المسلمات والمبادئ لعل أهمها أن الشعب الكردي بخصائصه ومكوناته كان ولا يزال محروما من حقوقه الأساسية في المنطقة، وأن استقلاله كمكون قومي تمت التضحية به لمصالح سياسية واستراتيجية اقتضتها مرحلة ما بين الحربين في القرن الماضي، ولكن على الرغم من المراحل القاسية التي مر بها الأكراد في أكثر من بلد، فإن تجربة حكم إقليم كردستان هي محط إعجاب الكثيرين، حيث استطاع أكراد شمال العراق إقامة حكومة مستقلة، وانتخابات تمثيلية نزيهة، ونهضة تنموية جعلت من الإقليم مركز جذب استثماري بعد عقود من الحرب الأهلية. أيضا، لعب الأكراد دورا هاما في تأسيس العراق الجديد، ويمكن القول إنه بغير المشاركة الكردية لما كان يمكن أن يصاغ دستور جديد، أو تقوم انتخابات.

بيد أن الخطاب السياسي الكردي بات يمارس نوعا من الحياد السلبي في كثير من قضايا العراق الحاسمة. تأمل الانتخابات الأخيرة، وكيف أن الكتل الكردية رفضت أن تمارس الضغط على أي طرف لتحقيق تسوية، وحين كان المسؤولون الأكراد يُسألون عن سبب امتناعهم عن تأييد الكتلة الأكبر كانت الإجابة الكردية بأنهم يفضلون الوقوف على الحياد في النزاع السني - الشيعي بدعوى أنهم تضرروا في السابق على أيدي حكومات هي من صنع الفريقين. هناك مظاهر كثيرة للحياد السلبي الكردي بدءا بمسألة الدستور، وانتهاء بقضية كركوك. إذ في كل المسائل المطروحة اليوم يريد القادة الكرد أن يُحفظ لهم نصيبهم كاملا غير منقوص، ولكنهم في ذات الوقت غير مستعدين للتضحية بأي شيء، أو تحمل أي مسؤولية تقتضيها هذه الأدوار والمسؤوليات الموكلة لهم.

حين تشكلت أول حكومة عراقية بعد عهد صدام، لقي الأكراد معاملة غير ودية من بعض القادة والمسؤولين العرب الذين ما كانوا يتصورون أن يجلس إلى جانبهم رئيس عراقي كردي، وأن يمثل العراق في اجتماعات الجامعة العربية وزير خارجية كردي. لكن مضى على ذلك قرابة الخمس سنوات، بحيث جرت في الساقية مياه كثيرة. لقد أصبح مام جلال شخصية شعبية بين رؤساء دول الجوار. أما كاكا مسعود فيتم استقباله بمستوى رؤساء الجمهوريات، وينظر كثير من وزراء دول المنطقة بعين التقدير والإعجاب لشخصيات سياسية كردية مثل فؤاد معصوم، وبرهم صالح، وهوشيار زيباري.

ولهذا فإن تصريحات الأكراد التي تطالب بحق تقرير المصير غير إيجابية، ليس بدعوى أن تقرير المصير ليس حقا كرديا، بل على العكس من ذلك. ما فعله الأكراد منذ 1992 يصب كله في خانة تقرير المصير. عمليا، هم اليوم مستقلون إداريا وسياسيا كما لم يكونوا في أي وقت في الماضي، بل يحظون بقوة سياسية في بغداد، وسلطة مطلقة في مدنهم لا تتمتع بها أي قومية أخرى في البلد. مكاتب التمثيل السياسي والتجاري الكردية في الخارج، هي أكثر نشاطا في بعض البلدان الأجنبية من سفارات الحكومة العراقية ذاتها. إذن، ما الذي ينقص الأكراد؟

الأكراد محقون في عدم الثقة بالعرب، ولكن ذات الشيء ينطبق على الأتراك والإيرانيين. لقد رفع الأكراد شعار الاستقلال منذ 1920، ولم يكن الوقت مواتيا لتحقيق مطلب الاستقلال، أو منسجما مع تطلعات الدولة القومية، وهي اليوم - ولعلنا نكون مخطئين - ما تزال غير متوفرة الشروط.

دعونا نكن صرحاء، زمن الدولة القومية انتهى، ومحاولة الأكراد بناء واحدة اليوم هي محاولة في الوقت الضائع. ها هي الدول القومية تتفكك من حولهم دون أن تحول الرابطة القومية أو الإثنية بين قتال العائلة الواحدة. ليتذكر الأكراد العراقيون أنه لولا الدعم الأميركي لإقليم كردستان بعد حرب العراق الثانية، لما سمح نظام صدام حسين، أو تركيا، أو حتى طهران باستقلال الإقليم. صحيح، أن كل هذه الأنظمة استغلت الورقة الكردية، ولكن أيا منها لم يكن يحفل أو يهتم بنيل الكرد حقوقهم. لا أعتقد أن كاكا مسعود يختلف معنا إذا ما قلنا إن وجود الأكراد على رأس السلطة في بغداد هو ما يضمن للسليمانية وأربيل الأمن والاستقرار الذي تعيشانه، وإنه إذا ما اختار الأكراد الاستقلال وضم كركوك بموافقة تركمانية، فكيف يمكن للدولة الجديدة أن تضمن الاعتراف الدولي، بل والأمن على أراضيها من تدخل دول الجوار. دول مثل تركيا، وإيران، وغيرهما تتعامل مع القادة الأكراد بندية لأن الأكراد اليوم يقفون على هرم السلطة في بغداد، ولكن ما الذي سيكون عليه الوضع لو كانت كردستان دولة صغيرة مستقلة، ثم هل هناك ضمانات أن يبقى العراق كيانا واحدا بعد استقلال الأكراد، وهل يرغبون هم في مواجهة دولتين أو ثلاث تحت خاصرتهم يناصبنهم العداء.

في الخمسينات كتب سي جي إدموندز يقول: «إن البصرة وبغداد لم تكونا لتشكلا دولة قابلة للحياة قط دون الموصل، وذلك لأسباب اقتصادية واستراتيجية» (نقلا عن عوني فرسخ، «الأقليات في التاريخ العربي»: 1994). التاريخ لم يتغير كثيرا، فالخلاف على كركوك - كما دلت عليه سياسة البعثيين السيئة - لا يمكن حله بالوسائل العسكرية، ثم ماذا يصنع الأكراد بآلاف العرب وغير الأكراد الساكنين في المناطق الكردية، بل ماذا يصنع القادة الأكراد بنصف مليون كردي يسكنون بغداد والمناطق المجاورة، هل يطلبون منهم الهجرة مثلا!

حاليا، لا أحد يستطيع انتزاع الحقوق ولا المكانة التي تحصل عليها الأكراد، ولكن ربما كانت مصلحة البقاء في العراق اليوم لدى الأكراد تفوق مكاسب الاستقلال. لقد كان المد القومي العربي وراء تسميم علاقة الأكراد بالعرب، واليوم فإن تنامي النزعة القومية الكردية قد يضر بإنجازات أكراد العراق.

ينقل الباحث العراقي الدكتور رشيد الخيون في كتابه الهام «الأديان والمذاهب بالعراق» (2007)، أن الملا مصطفى البارزاني كان قد أوصى أن يكون قبره دارسا بمستوى الأرض حسبما تقتضيه الطريقة النقشبندية. لقد واجه الملا مصطفى القوميين والبعثيين في سبيل الحفاظ على هوية الكرد، وكان منتهى أمله أن ينال الأكراد الحكم الذاتي. بيد أن أبناءه وأتباعه اليوم، لا يحكمون السليمانية فقط بل العراق كله، فهل يرغبون حقا في التفريط في كل هذا التاريخ من أجل دولة قومية صغيرة في جوار مضطرب؟!