هل بدأت حرب مياه النيل؟

TT

لا يحتاج المرء إلى الاطلاع على ما ورد في إحدى وثائق «ويكيليكس» - عن أن مصر لديها مخاوف من تأثير انفصال جنوب السودان على حصتها من مياه النيل، وأنها لذلك سعت لإقناع واشنطن بالمساعدة على تأجيل استفتاء الجنوب - لكي يعرف أن هذا الملف مرشح للكثير من التعقيدات التي قد تجعله في مستقبل غير بعيد يطغى على ما عداه من قضايا. فمن يسمع التصريحات، ويتابع التحركات المحمومة، ويرصد التوتر المتزايد تحت السطح، يراوده إحساس بأن حرب مياه النيل قد بدأت بالفعل.

رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي الذي تقود بلاده حملة منظمة للمطالبة بإعادة توزيع مياه النيل وتعديل الاتفاقيات القديمة، أطلق رصاصة تصعيدية عندما خرج أخيرا بتصريحات قال فيها إن مصر لا يمكنها أن تكسب حربا مع إثيوبيا على مياه النيل. وكشف عن حجم الأزمة الكامنة تحت السطح عندما اتهم مصر بأنها تدعم جماعات متمردة لزعزعة الاستقرار في إثيوبيا بسبب الخلافات بينهما حول قضية المياه. وزاد على ذلك بقوله في المقابلة التي أجرتها معه وكالة رويترز أواخر الشهر الماضي: «لا أخشى أن يغزو المصريون إثيوبيا فجأة، فلم يعش أحد ممن حاولوا ذلك قبلا ليحكي نتيجة فعلته، ولا أعتقد أن المصريين سيختلفون عمن سبقهم، وأعتقد أنهم يعلمون ذلك». هذا الكلام الذي خلا من اللهجة الدبلوماسية المعتادة، يشير إلى أن هناك أزمة حقيقية، وأنها دخلت طورا جديدا يستخدم لغة الحرب، بين أكبر لاعبين في هذا الملف. فإثيوبيا تعد أهم رافد من روافد نهر النيل، إذ تجلس على منبع النيل الأزرق الذي يرفد نهر النيل بأكثر من ثلثي مياهه وتربته الخصبة، كما أنها الدولة التي تشهد واحدة من أعلى معدلات ارتفاع السكان، بحيث سيبلغ عدد سكانها 113 مليونا بحلول عام 2025 لتصبح ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان بعد نيجيريا، متجاوزة بذلك مصر. وقد عرفت إثيوبيا خلال الثلاثين عاما الماضية مجاعات وموجات جفاف جعلتها تقوم ببناء خمسة سدود ضخمة خلال العشر سنوات الماضية لتسهم في إشعال القلق بشأن ملف مياه النيل، وكيفية التوفيق بين الاحتياجات المتزايدة لدوله والموارد المائية والطبيعية المحدودة.

مصر من جانبها تعتبر المستهلك الأكبر لمياه النيل وتعتبره شريان حياتها الرئيسي، ولذلك تتحدث عن هذا الملف باعتباره قضية حياة أو موت. ورغم أنها تعتبر إثيوبيا المحرك الرئيسي للمطالبات بإلغاء الاتفاقيات القديمة التي تحكم توزيع مياه النيل والتوصل إلى اتفاقية جديدة تعطي دول المنبع حصة أكبر مما يعني حتما خفض حصة مصر، فإنها ردت بدبلوماسية على تصريحات زيناوي مفضلة عدم الانجرار وراء التصعيد. وبعد أن أبدت استغرابها من التحذير الإثيوبي، قالت القاهرة إنها لا تعتبر الحرب خيارها في ملف مياه النيل وإنها تعمل باستراتيجية الحوار والتفاوض لحل المشكلات، مؤكدة أنها في حال عدم التوصل إلى حلول فإنها تتبنى ضمن خياراتها اللجوء إلى القانون الدولي لحماية ما تعتبره حقوقا تاريخية موثقة باتفاقيات دولية. وبعد أن نفت اتهام زيناوي بأنها تدعم جماعات متمردة لزعزعة استقرار إثيوبيا، اتهمته بأنه وراء الاتفاق الإطاري الذي وقعت عليه خمس من دول المنبع هي إثيوبيا وأوغندا ورواندا وكينيا وتنزانيا، وأيدته الكونغو الديمقراطية وبوروندي لكنهما تحفظتا على التوقيع مفضلتين عدم التصعيد مع دولة المصب مصر، ودولة التكوين السودان (باعتبار أن النيل يتكون في السودان من التقاء النيلين الأزرق والأبيض إضافة إلى نهر عطبرة).

وكانت القاهرة قد بدأت تحركات مكثفة باتجاه الدول الموقعة على الاتفاق الإطاري بهدف إفشال ما تراه تحركا إثيوبيا لعزلها ولإجبارها على إعادة التفاوض بشأن تقاسم مياه أطول أنهار العالم. وقد نجحت التحركات المصرية باتجاه الكونغو الديمقراطية وبوروندي، لكنها لم تتمكن من وقف توقيع الدول الخمس الأخرى على الاتفاق الذي لو نفذ فسيعني حتما فتح مواجهة خطيرة بين دول النيل على أساس أنه سيقوض الاتفاقيات القديمة ويجعل كل دولة تتصرف لوحدها، أو يقسم هذه الدول إلى كتلتين متعاديتين إلى حد التلويح بالحرب.

في الوقت ذاته تتابع مصر بقلق تطورات السودان وتتخوف من أن دولة الجنوب التي ستنشأ بعد استفتاء العام المقبل قد تنحاز إلى دول الاتفاق الإطاري خصوصا أن هناك علاقات قوية بين الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب وبين إثيوبيا وكينيا وأوغندا التي دعمت العمل المسلح والدبلوماسي للحركة على مدى سنوات طويلة قبل توقيع اتفاق السلام وبعده. وحتى لو لم تقف دولة الجنوب في صف المواجهة الذي تتبناه دول الاتفاق الإطاري، فإن مجرد قيامها سيفتح باب التفاوض حول كيفية تقاسم المياه خصوصا بعد أن قالت بعض الدوائر إن حصة الدولة الجديدة يجب أن تكون من حصة مصر والسودان معا أو من حصة السودان وحده.

هذه التعقيدات ستضاف إليها مشكلات أخرى إذا راعينا تحذيرات خبراء البيئة الذين يشيرون إلى أن العقود المقبلة ستشهد ارتفاعا في معدلات الحرارة وانخفاضا في منسوب الأمطار في عدد من دول العالم من بينها بعض دول النيل. ولعل أسوأ سيناريو هو استمرار التصعيد بين دول حوض النيل خصوصا أن هناك سباقا دوليا على الموارد في أفريقيا، كما أن هناك أطرافا تراقب الموقف وقد تجد فيه فرصة لتأجيج صراعات وحروب.