للحكم أحكام

TT

من أسوأ مصاعبنا السياسية هذا الانفصام الشيزوفريني بين النضال والحكم. العمل السياسي من أجل التغيير والتحرر وتحقيق العدالة والمساواة في الدول الدكتاتورية والسلطوية يفرض على المتطلعين للتغيير العمل السري. وبالنظر إلى صعوبة العمل السري ومخاطره، لا يقوى عليه غير الشجعان والمغامرين، وفي كثير من الأحيان المجانين في الواقع، وكثيرا ما يعني ذلك ابتعاد ذوي الكفاءات والمؤهلات والقدرات والمسؤوليات عن مثل هذا الميدان الدموي. وبتكريس حياتهم للعمل السري من تنظيم وتخطيط وتآمر وتبشير بالحركة وكسب الأنصار لها ومناورة النظام القائم وتضليل مخابراته، لا يجد المناضلون وقتا للدراسة والبحث. يجدون أمامهم شعارات شعبية جاهزة: طرد الأجنبي، الإصلاح الزراعي، الضمان الاجتماعي، تأميم الصناعات والخدمات، تحرير فلسطين، الوحدة العربية. يتبنون هذه الشعارات دون أن يفكروا في التفاصيل والإمكانات والكيفيات. ويزدادون هوسا بهذه الشعارات عندما يرونها تجرّ الشعب الساذج لتأييدهم، فيصبحون أسرى لها لا يستطيعون التخلي عنها. تدخل البلاد في هذه الدائرة المفرغة، المناضلون يغذون الجمهور بديماغوجياتهم العاطفية والجمهور يمد المناضلين بغرورهم وطيشهم وأوهامهم.

يوفَّقون في الأخير بمسعاهم فيُسقِطون النظام القائم فتشغر الحكومة لمن يحكم البلاد. لا يخطر لهم أن الحكم وإدارة بلد يتطلبان مواصفات دقيقة مختلفة ومعرفة بفن الحكم وتنظيم الاقتصاد، ولا سيما في عالم أصبحت العولمة تسوده وتعقدت فيه الأمور الاقتصادية ومشكلات العملة. ولكنهم بنجاحهم البطولي في إسقاط النظام يتصورون أن لديهم القدرات للاضطلاع بهذه المهمات أيضا، يمدهم في هذا الوهم الحماس والإعجاب الشعبي بهم وببطولاتهم إلى درجة التأليه، ولا سيما عندما يأتي هذه التأليه من قادة الفكر في البلاد، الشعراء والأدباء والمفكرين وأساتذة الجامعات، بدلا من الاعتراف بجهلهم وتسليم الأمور بيد الآخرين، كما فعل سوار الذهب في السودان وغاريبالدي في إيطاليا، يتسلمون الحكم ويوقعون بلدهم في الكارثة.

هذا هو المطب الذي وقع فيه معظم الثوريين في العالم، وعلى رأسهم قادة الحركة الشيوعية، من لينين إلى ستالين وماو تسي تونغ وقادة الحركة القومية العربية من عبد الناصر إلى عبد السلام عارف وصدام حسين. يعود فشل الشيوعية والاشتراكية في رأيي، إلى حد كبير، إلى هذه الظاهرة.

إن من أسوأ مثالب الدكتاتورية فتح الأبواب لمثل هذه الفئات في تسلم إدارة البلاد، ومن أسوأ الخلطات السياسية مزج الوطنية والشعارات الدينية بالحكم والسياسة.

وعت بعض الشعوب الآن أخطار هذا النهج فتعالى النداء لتسليم الحكم للتكنوقراط. لا يعني ذلك طبعا مجرد المختصين بالتكنولوجيا والعلوم الحديثة، وإنما يعني المتبحرين في تكنولوجيا الحكم. وهي ميزة واسعة كثيرا ما تتطلب التربية والخلفية العائلية، وهو ما نجده في الأنظمة الملكية والتقليدية والخبرة الطويلة في شؤون إدارة البلاد، بالإضافة طبعا إلى المعرفة والإلمام الموضوعي بشتى جوانب الحياة المعاصرة وتاريخ المنطقة.