أهذا ما يريده الذين يطالبون بحل السلطة الوطنية؟!

TT

كل الذين وجدوا في تلويح الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بالاستقالة وإلغاء السلطة الوطنية، إنْ لم تُحل مسألة إصرار الإسرائيليين على مواصلة الاستيطان، فرصة للدفع في هذا الاتجاه تحت وابل من الاتهامات التي كانت وُجهت إلى القيادة الفلسطينية أكثر من مرة في السابق القريب والبعيد إما أنهم وضعوا أنفسهم في دائرة الخطأ بحسن نية ودون أجندات خاصة أو أنهم قد أقدموا على هذه الخطيئة عن سابق تصميم تلاؤما مع حسابات فصائلية وتنظيمية ترى أنه لن تصبح الطرق آمنة وسالكة أمام دور تنتظره ما لم تتم إزاحة ما هو قائم والقضاء على منظمة التحرير وعلى الحالة القائمة الآن المستندة إلى اتفاقيات أوسلو التي كانت وقعتها هذه المنظمة في عام 1993.

والواضح أن هؤلاء الذين بادروا إلى شن هذه الحملة المتواصلة على (أبو مازن) وعلى السلطة الوطنية ومنظمة التحرير يعرفون - وإن تظاهر بعضهم بحسن النوايا وبالغيرة على الشعب الفلسطيني - أن المستفيد من تدمير ما هو قائم، أي السلطة والمنظمة والكيان الذي على رأسه محمود عباس، هو أولا هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي يقودها بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان وهو ثانيا أولئك الذين يشكلون جسرا متقدمّا لإيران في الحالة الفلسطينية والذين اختبر الفلسطينيون حقيقة ما يسعون إليه بعد انقلابهم الدموي والمشؤوم في غزة.

ربما أن (أبومازن) قد لوَّح بالاستقالة وحل السلطة الوطنية كآخر خياراته الستة التي تحدث عنها باستفاضة أكثر من مرة ليخيف الإسرائيليين من عودة الضفة الغربية إلى واقع الاحتلال على غرار ما كان عليه الوضع قبل اتفاقيات أوسلو لكن يبدو أن الرئيس الفلسطيني لم يأخذ بعين الاعتبار أن هذه الحكومة الإسرائيلية للخروج من دائرة الضغوطات الدولية التي تتعرض لها تعتقد وهي محقة في اعتقادها أن انفراط عقد الوضع الفلسطيني القائم يوفر لها الادعاء بأنها لا تجد الجهة الفلسطينية التي تفاوضها ويوفر لها المبرر الذي هي بحاجة إليه للسعي لخلق إدارة فلسطينية هزيلة تكون واجهة لحكم ذاتي إداري ومدني منقوص كانت إسرائيل قد عملت على إنشائه في سبعينات القرن الماضي من خلال «روابط القرى» الشهيرة لكنها كما هو معروف قد أخفقت في محاولاتها تلك لأن منظمة التحرير كانت في ذروة تألقها ولأن العمل المسلح الفلسطيني كان في ذروته.

هذه هي حقيقة بديل استقالة «أبو مازن» وحل السلطة الوطنية وإنهاء منظمة التحرير وترك الشعب الفلسطيني يتخبط في الفوضى والفراغ القاتل والمؤكد أن الذين بادروا إلى التقاط ما لوح به الرئيس الفلسطيني والمباشرة بالضغط، ومعهم حلف ما يسمى «الممانعة» لتحقيقه يعرفون - حتى وإن قال بعضهم إن البديل هو العودة لخيار المقاومة - أن البديل سيكون العودة إلى المربع الأول وسيكون الفوضى والتشظي وأن النتيجة ستكون خسارة كل هذا التعاطف الدولي وستكون، على أحسن تقدير، ربط الحالة الفلسطينية بإيران وتحالفها ليصبح الفلسطينيون عند ذلك مجرد أوراق مساومة وبيع وشراء على موائد الألاعيب الإقليمية والدولية الجارية. وحتى بالنسبة للذين اتخذوا موقف الترحيب باستقالة «أبو مازن» وحل السلطة الوطنية وإنهاء منظمة التحرير والدفع في هذا الاتجاه تحت شعورهم بالإفلاس وبحثا عن البديل الرخيص في الدول المجاورة فإن عليهم أن يدركوا أنهم، بتفكيرهم هذا يضعون أنفسهم في مواقع الخيانة الوطنية وذلك علاوة على أنهم، إن فقد الشعب الفلسطيني المستقبل الذي يسعى إليه فوق تراب وطنه الذي لا وطن له غيره، سيصبحون في دول الطوق التي يعيشون فيها الآن - رغم أنهم قادرون على العيش في الضفة الغربية وغزة - ذوي حقوق منقوصة عن حق وحقيقة، فهذه الدول ليست «داشرة» ولها أهلها وهي لا يمكن أن تقبل بمكافأة من يفرط في حق العودة ومن يتخلى عن وطن يستحق المزيد من التضحيات وحتى وإن استطال الزمن لألف عام.

على الذين دفعتهم حساباتهم الشخصية وإفلاسهم النضالي والذين دفعتهم أجنداتهم الفصائلية الضيقة إلى عدم الثقة بالمستقبل وإلى استسهال البدائل التي يفكرون فيها في الدول العربية المجاورة وربما في المهاجر البعيدة أن يدركوا أن القضية الفلسطينية لم تكن في أي يوم من الأيام أحسن مما هي عليه الآن فالعالم كله، شعوبا وحكومات، قد «قرف» هذه الدولة الإسرائيلية وبات أيضا يضيق ذرعا بها ولم يعد يصدق كل مبررات وجودها والعالم كله شعوبا وحكومات بات مع أن يقرر الشعب الفلسطيني مصيره بنفسه ويقيم دولته المستقلة على كل الأراضي التي احتلت في عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية.

قبل فترة تبنت اللجنة الرباعية الدولية (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة) تقريرا يقول إنه إذا واصلت السلطة الوطنية درجة الأداء الحالية في بناء المؤسسات فسوف تكون في فترة قريبة جدا في وضع يؤهلها لإقامة الدولة المستقلة وكل هذا وهناك معلومات مؤكدة بأن الشهور الأولى من السنة المقبلة 2011 ستشهد اعترافا أوروبيا، كانت بدأته البرتغال قبل أيام، بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وهذا ما أصبح في حكم المؤكد على الصعيد العالمي في ضوء الخطوات المتلاحقة التي اتخذتها دول أميركا اللاتينية وفي مقدمتها البرازيل.

وكذلك وقبل أيام كان الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز» الشهيرة روجرز كوهين قال: إن أوباما (الرئيس الأميركي) قد وصل إلى درجة اليأس من المواقف الإسرائيلية ولذلك فإنه ربما إذا بقي الوضع على ما هو عليه أن يذهب إلى مجلس الأمن ليتبنى قرارا يعترف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 لقاء إسقاط الفلسطينيين لما يعتبرونه ثوابت تاريخية كحق العودة وغيره.

يضيف روجرز كوهين في مقاله هذا متسائلا: كيف يمكن إقامة مثل هذه الدولة والمفاوضات متوقفة..؟ ثم ولأن التسليم بسياسات إسرائيل الاستيطانية يشكل فشلا للسياسة الأميركية يرتقي إلى درجة الإهانة ولأنني لا أعتقد أن الإسرائيليين لديهم القناعة السائدة في العالم كله بحتمية قيام الدولة الفلسطينية ولأنني لا أعتقد أيضا أن حلم يهودا والسامرة قد مات في ذهن نتنياهو فإنني أعتقد أن الإسرائيليين باتوا يخشون، إذا بقي رئيس وزرائهم على موقفه هذا حتى سبتمبر (أيلول) 2011 من أن يتفق أوباما مع الدول الأربع العظمى الأخرى على الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يعترف بدولة الفلسطينيين المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967.

فهل في ضوء هذا كله على الشعب الفلسطيني الذي قدم كل هذه التضحيات الجسام ليوصل قضيته إلى هذا الواقع العالمي والدولي الذي وصلت إليه أن يستجيب لنعيق غربان الشؤم الذين هرعوا بمجرد أن لوح «أبو مازن» بما لوح به للمطالبة باستقالته وبحل السلطة الوطنية وإنهاء منظمة التحرير وكل ذلك من أجل حساباتهم الشخصية والخاصة ومن أجل أن يقبروا هذه القضية المقدسة لقاء حصولهم على حقوق غير منقوصة في بعض دول الطوق التي يعيشون فيها مع أنه كان بإمكانهم أن يعيشوا مع شعبهم المكافح في فلسطين الحبيبة التي هي أجمل الأوطان وأكثرها قدسية؟!