أنا أبرر.. إذن أنا موجود!

TT

ليس صحيحا أن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو اللسان، كما كان شائعا، فقد فند العلماء المعاصرون هذا الاعتقاد الخاطئ جملة وتفصيلا، وأثبتوا أن الحيوانات أيضا لها ألسنة، ولغات تنظم بها شؤونها الأسرية وحياتها الاجتماعية وتتجاذب بواسطتها أطراف الأحاديث، وتحب وتعشق وتتفاهم فيما بينها، ولكننا لا نفقه ما تقول بسبب محدودية إدراكنا الحسي وضعف أدواتنا العلمية (يعني الخلل فينا)، ربما نكتشف ذلك مستقبلا عندما نتطور أكثر ونصل إلى معرفة خفايا كثيرة غامضة عن الكائنات الحية أو غير الحية التي تحيط بنا وتعيش معنا، ولكن ما يجب اليوم أن نسلم بصحته ونتأكد منه أن عالم الحيوان لا يختلف عنا في شيء، وربما كان أرقى من البعض منا في أمور لم نكتشفها بعد.

ما يميزنا عن الحيوانات ليست اللغة ولا العقل ولا الإحساس ولا الوظائف الجسدية، ولا أي شيء آخر؛ كل ما هو موجود فينا موجود فيها وزيادة، ولكن ما يميزنا عنها حقا هو معجزة اسمها «التبرير» الذي يعتبر أهم إنجاز إنساني على الإطلاق منذ أن وجد، فهو اختراع يتفرد به الإنسان وحده دون غيره من الكائنات الحية الأخرى الموجودة معه، فهو بحسب علماء النفس والاجتماع والفلسفة «حيلة لا شعورية تلجأ النفس البشرية إليها وتسوغ سلوك الشخصية أو ميولها أو دوافعها التي لا تكون مقبولة عند المجتمع» أي أنه «كذب مقنع» أقوى وأسوأ من الكذب العادي، فالمبرر يتعمد الكذب على نفسه وعلى الآخرين أيضا، يعني هو كذب مركب، وهو «أعذار تبدو للنظرة العابرة أنها مقنعة ومنطقية، ولكنها ليست الأسباب الحقيقية والدوافع الفعلية، يعني هي أعذار واهية» وأخيرا؛ هو الشماعة التي يعلق الإنسان عليها أخطاءه وفشله «حيث يقوم الإنسان بإلقاء اللوم على الآخر سواء كان شيئا ماديا أو شخصا أو ظرفا من ظروف الحياة»، ومن كثرة استعمالنا اليومي له أصبح عادة «طقوسية» نمارسها بشكل يومي منظم، نمارسها في المدرسة ونحن أطفال، ونمارسها ونحن كبار وشيوخ، ونمارسها ونحن مسؤولون عظام وعلماء وتجار وكسبة، لا أحد بمنجى عنها، إلا ما رحم ربي، قد تختلف النسبة من إنسان إلى إنسان ومن مجتمع إلى مجتمع، تقل أو تزيد ولكنها تظل عادة متأصلة في الإنسان، لا يستطيع الفكاك منها متى ما اقتضت الحاجة لجأ إليها دون أي تردد.

وقد مارستها قبائل ودول (قديما وحديثا)، فغزت وقتلت وشردت وارتكبت جرائم كثيرة. أشعلت القوات النازية الحرب على العالم دفاعا عن نقاء وصفاء الجنس الآري، ووضع المعسكران المتصارعان الغربي والشرقي في حربهما الباردة العالم على «كف عفريت» لمدة تزيد عن نصف قرن بحجة نشر مبادئ الديمقراطية والاشتراكية.. ولم يتوان صدام حسين عن غزو الكويت ونهب ثرواتها بحجة «الدفاع عن العراق وكسر الحصار الجائر الذي فرضته عليه الكويت(!!)، وبحجة المحافظة على وحدة وسيادة وسلامة الأراضي العراقية قام بقتل آلاف الأكراد بالقنابل الكيماوية!». ومن أغرب التبريرات التي ساقتها وسائل الإعلام في بعض الدول الإسلامية حول الوثائق السرية التي تسربت من وزارة الخارجية الأميركية ونشرها موقع «ويكيليكس»، أنها مؤامرة من تدبير وكالة الاستخبارات الأميركية لإحراج إدارة الرئيس أوباما وتلطيخ سمعته! «لكي لا يعاد ترشيحه لولاية ثانية»، طبعا هذا القول مجرد تحليل ينقصه الدليل العقلي المقنع لأنه ليس من مصلحة الوكالة التي تأتمر بأوامر الرئيس مباشرة أن تسيء إلى الدبلوماسية الأميركية التي هي الجهة الرئيسية التي تضررت من جراء نشر هذه الوثائق الفاضحة، كان بإمكان الولايات المتحدة بسهولة أن تتهم دولا إسلامية «معادية» أو «مارقة» بتدبير هذه الفضائح للنيل من سياستها في المنطقة، لا أن تتآمر على نفسها!

وهب أن هذه «الحدوتة» صحيحة وأنها هي التي قامت بذلك فعلا، ولكن أكيد أنها لا تقصد الرئيس أوباما ولا الدبلوماسية الأميركية ولا حتى موظفا بسيطا في السلك الدبلوماسي عندهم، بل تقصدنا نحن، نحن الهدف أولا وأخيرا.

* كاتب كردي عراقي