أوهام أميركا داخل لبنان

TT

بيروت - في يوم من الأيام تحدثت وزيرة خارجية أميركية عن «آلام ميلاد شرق أوسط جديد». والآن هذه أكثر العبارات إثارة للسخرية داخل دولة لبنانية تتحدى الجاذبية وبها جيشان وحكومة «وحدة» منقسمة بصورة تمنعها من الاجتماع، وفي ظل طفرة كبيرة في قطاع العقارات وقنبلة موقوتة اسمها «المحكمة الدولية».

وضع مربك، أليس كذلك؟ لبنان ليست ساحة للهواة. حسبت كوندوليزا رايس أنه بإراقة الدماء في الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله - الحركة الشيعية المسلحة - عام 2006، ستوضع بذور شرق أوسط جديد - ديمقراطي ولا يوجد به حزب الله ويمكن تعديله وفقا للمصالح الأميركية. وقد تبين أنها كانت تحلم.

وبعد مرور أربعة أعوام، نجد حزب الله أقوى من أي وقت مضى، ولديه القوة الأكبر بين هذين الجيشين (الجيش الآخر هو القوات المسلحة اللبنانية)، وله حضور داخل الحكومة وحق الفيتو بشأن الاتجاه الذي تسير إليه لبنان وزعيم - حسن نصر الله - لم تكن شعبيته كرمز للتحدي العربي أقوى في أي وقت مضى.

وتزدهر الضاحية، وهي ضاحية جنوب بيروت التي يسيطر عليها حزب الله وسوتها إسرائيل بالتراب عام 2006، حاليا بأعمال تعمير وأنشطة تجارية، بما في ذلك حانات عصائر متطورة. وتبدو مصدر تهديد مثل شارع كانال داخل نيويورك.

وتستمر أميركا في حلمها. ومن المؤكد أن «الشرق الأوسط الجديد» انضم إلى «محور الشر» في المزبلة الدبلوماسية. ولكن لا تزال السياسة الأميركية تعمل على تجاهل الواقع.

لقد تولى حزب الله، الذي يحصل على تمويل من إيران ودعم من سورية، دورا محوريا داخل الساحة السياسية اللبنانية. ويمثل حزب الله حزبا سياسيا وحركة اجتماعية وميليشيا لا يناسبها تعبير «مجموعة إرهابية» مطلقا. وقد أصبحت الحركة أقوى رمز لما يعرف داخل منطقة الشرق الأوسط باسم «المقاومة».

هذه حقيقة غير مستساغة. ولكني أشك أنها حقيقة دائمة كذلك. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن تجنب أي اتصال مع حزب الله يعد بمثابة محاولة لعب الشطرنج داخل منطقة الشرق الأوسط من دون استخدام الكثير من قطع اللعب. وكما يظهر التاريخ أخيرا، فإن هذه وصفة للفشل.

لقد تسبب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري الموالي للغرب عام 2005 في احتجاجات واسعة شهدت انسحابا للجيش السوري وأعادت أوهاما قديمة تتعلق بدولة لبنانية في المعسكر الغربي.

وأنشئت محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة من أجل التحقيق في عملية الاغتيال وسط شكوك على نطاق واسع بتورط سوري. وأعطت لوحة - «الحقيقة من أجل لبنان» - شعورا متسرعا ببدايات جديدة في أرض تشهد تدخلا أجنبيا بامتياز. ولم يتحدث أحد عن «الحقيقة» أكثر من سعد الحريري، ابن الزعيم الراحل ورئيس الوزراء الحالي. وبدا أن الجميع يحتسون كول آيد. وحتى وليد جنبلاط، زعيم الدروز في لبنان تحدث عن بداية «عالم عربي جديد وكان مناهضا لسورية ومناصرا قويا للمحكمة». وحيث إنه زعيم لبناني، فقد بدا ذلك من الأهمية بمكان.

والآن، خلال تناول وجبة غداء في الفيلا الخاصة به في بيروت، وجدت جنبلاط يتحدث عن «جنون» تلك اللحظة وإقامته الموجزة على «الجانب الاستعماري» وإحساسه بأنه ذهب إلى بعيد مع الأميركيين و«المعتدلين العرب» وإدراكه بأن بقاء طائفته الصغيرة يعتمد على اتخاذ طريق مماثل إلى دمشق.

وقد أثار تحول جنبلاط غضب إدارة أوباما، ولكن ذلك يعكس التحول في التيار. وكما قال نديم حوري، مدير فرع منظمة «هيومان رايتس ووتش» في بيروت: «بعدما فعلت إسرائيل في يوليو (تموز) 2006، خسرت الولايات المتحدة الحرب الاستراتيجية». وقد تحقق ذلك في 2008، عندما هزم حزب الله منافسيه الموالين للغرب في شوارع بيروت. ولم يمض اجتماع عقد أخيرا بين جنبلاط ومساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان بسهولة. يقول جنبلاط: «أخبرني بأني زعيم وطني ويجب أن أدعم المحكمة». «ولكني أجبت بالنفي وأني أفضل أن أكون زعيما قبليا. وسألت عن فائدة عدالة المحكمة إن كان ذلك سيفضي إلى وقوع مذبحة؟ من الأفضل ترك العدالة بدلا من التخلي عن الاستقرار».

ربما كان جنبلاط وقحا ولكنه داهية. ويوشك صدور لائحة اتهام من المحكمة، وتنتشر إشاعات بأنها ستسمي أعضاء في حزب الله. ويمكن أن يثير ذلك توترات تتجاوز خطا فاصلا مدمرا شيعيا - سنيا (إيران والعرب). وسيجعل ذلك الحريري مثل هاملت: يترأس حكومة تضم المتهمين بقتل والده.

وقد ذكر نصر الله تحذيرات وروج لنظريات مستحيل وقوعها - ولكن يؤمن بها الكثيرون - بشأن تورط إسرائيلي في الاغتيال. وأخذ الحريري يتحدث بمقدار أقل وأقل عن «الحقيقة» ويجتمع بمقدار أكبر مع الرئيس السوري بشار الأسد.

وأشعر أن مرور الوقت - بالإضافة إلى التخبط والتضارب - جعل تحقيق العدالة أمرا مستحيلا فيما يتعلق بمقتل الحريري. كما أن استقرار لبنان ثمين ولكنه غير واضح المعالم، وجعل من العدالة متأخرة ومعيبة وأجنبية.

وفي معرض ذلك، فإن التوازن الحساس بين المصالح الشيعية والسنية في الوقت الذي يزدهر فيه الاقتصاد اللبناني ويعقد حزب الله صفقات مع الحريري، يمثل شرق أوسط به منحى براغماتي لكسب المال. ليس ما تريده الولايات المتحدة أو تستعد للتعامل معه. وكما قال حوري: «هذا ليس كيانا تابعا لإيران. والغرائز الليبرالية الحقيقية باقية». هل هناك من ينصت إلى ذلك داخل واشنطن دي سي؟ حان وقت التخلي عن الدبلوماسية، من أجل التعامل مع واقع غير واضح.

* خدمة «نيويورك تايمز»