وجهة نظر في الخلاف الجزائري المغربي

TT

تعرف العلاقات الجزائرية المغربية، منذ سنوات غير قليلة، حالة سمتها البرودة والانقباض من وجه والاحتقان الذي ينذر بكل الأخطار من وجه آخر. حالة ليست بالطبيعية بالنسبة للوطن العربي جملة ولحوض البحر الأبيض المتوسط عموما ولأفريقيا خاصة ولدول المغرب العربي الخمس، على وجه أخص، وهي بمذاق المرارة والأسى بالنسبة للجارين الشقيقين. كل من عرف، أو خبر، الخصومة بين الأشقاء داخل الأسرة الصغيرة أو حالة العداوة بين أبناء العمومة أو الخؤولة يدرك عمق ذلك الألم فيمتلئ الحلق منه غصة من قسوتها.

نعم، مع كامل الأسى والأسف، خلاف جزائري مغربي غير يسير. خلاف يملأ ساحة الأمم المتحدة، وتنظر إليه الدول العظمى بعين الحيطة والتربص معا ويرنو إليه كل أرباب المصالح في إذكاء الفتن وإشعال الحروب بفرح مع إشفاق من زوال أسباب الخلاف وخوف من تبدد السحب. موضوع الخلاف هو، كما يعلم الجميع، الصحراء المغربية.

الحق أنه يجب القول، بالأحرى، إنه اعتراض الدولة الجزائرية على مغربية الصحراء المغربية أي على الحق الطبيعي الذي يمتلكه المغرب بشهادة التاريخ والاجتماع والثقافة وبتأييد من القانون الدولي ومقتضيات تصفية الاستعمار. مصدر الخلاف، في عبارة أخرى، هو ما تبديه الدولة الجزائرية من تحفظات واعتراضات هي، أكثر من غيرها، أفضل من يعرف مدى ضعفها وتهافتها. لماذا كان الأمر على هذا النحو إذن؟ علم ذلك عند ربي في كتاب ولست أريد الخوض في تكهنات لا تفيد البتة فيما أريد اليوم أن أسهم به من رأي بحسباني فردا من أبناء المغرب العربي يحز في نفسه ما يراه من تعطيل في بناء هذا الكيان الكبير الضروري لعيشنا حاضرا والمطلوب لوجودنا في الغد القريب. غير أني لا أملك أن أقول إنه ليس من السهل البتة أن تخرج إلى الشارع في الدار البيضاء جماهير تقرب عشر سكان المغرب فتهتف، في صوت واحد، بمغربية تلك الصحراء. لقد فعلت ذلك كما تفعله في كل مرة تقدر أن خطرا يتهددها أو تقدر أن العالم في حاجة إلى تبين رأي المواطن المغربي العادي في قضية من القضايا الكبرى. كذلك كان الخروج إلى الشارع والاحتجاج غداة حدث الإرهاب الذي ضرب المغرب في مايو (أيار) 2003، وكذلك كان الشأن عقب اجتياح العراق، وهو كذلك إثر كل الضربات الموجعة التي تصيب ذوينا في فلسطين - وكذلك سرنا، ونحن أطفال، في مظاهرات صاخبة نصرخ مطالبين باستقلال الجزائر الشقيقة وإنهاء الوجود الاستعماري فيها.

يعلم الجميع كذلك، والإخوة في الجزائر أكثر من غيرهم، أن الاستعمار الفرنسي قد عبث بالرقعة الجغرافية للمغرب شرقا فاقتطع منها ما شاء له منطق الاستعمار أن يقتطع من مناطق بأكملها. وعبث الاستعمار الإسباني بالأرض المغربية جنوبا، كما يعلم أولئك الإخوة قبل غيرهم، فقسمها أشلاء تمكن المغرب، في نضال متعدد الصور، أن يسترد أقساطا منها في السنوات الخمس التي أعقبت استرجاع الاستقلال واستمرت المطالبة والعمل، بكل الوسائل المتاحة، حتى قضت محكمة العدل الدولية بالحق التاريخي الشرعي للمغرب على أقاليمه الجنوبية في الساقية الحمراء ووادي الذهب، ثم كان حدث المسيرة الخضراء بعد أن مكنت السلطات الاستعمارية الإسبانية المغرب من استرداد حقوقه التاريخية ولم تكن المعارك التي خاضها المغرب سهلة ولم تكن قصيرة ولا قليلة الجهد والتكلفة.

لست، مع ما ذكرت، أبتغي إطالة الوقوف عند خلاف ربما كان الظاهر منه يخفي أكثر مما يظهر بل إني لا أريد للشجرة أن تخفي عني الغابة، كما يقول المثل الفرنسي، ولذلك فإنني أحاول السير خطوات قليلة إلى الأمام وذلك ببسط وجهة نظر عسى أن تكون لبنة صالحة في بناء ذلك الصرح الذي تهفو قلوبنا إلى إقامته، صرح المغرب العربي الكبير.. ربما كان الأجدر بنا أن نتساءل على النحو التالي: أليس في الإمكان حقا أن نحاول المضي قدما إلى الأمام ونحن نجعل الخلاف القائم بين المغرب والجزائر بين مزدوجتين؟ ما الفائدة من إبقاء الحدود مقفلة بين البلدين الشقيقين كأن جرائم لا حد لفظاعتها قد تم اقترافها؟

بين المغرب والجزائر مشكلات معلقة ليس أقلها شأنا ما تعلق بتصفية التركة الاستعمارية، تلك التي تتمثل في الإشكالات التي ترجع إلى الحدود المشتركة بين البلدين الشقيقين وهذه تتطلب حوارا هادئا حضاريا لا شك أن ما سيترتب عنه سيكون مفيدا ومثمرا بالنسبة للبلدين وللشعبين معا. وبين البلدين الجارين قضايا أسرية وأخرى اجتماعية بالنظر إلى التداخل الشديد بينهما في مستويات عديدة ترجع إلى روابط الجوار والإرث المشترك ثقافيا بل ودمويا. هل يعلم القارئ الكريم، على سبيل المثال، أن الرئيس الجزائري قد ولد ونشأ وعاش مراحل دراسته الابتدائية والثانوية في مدينة وجدة كما أن والدة الزعيم أحمد بن بلة تمت إلى المدينة نفسها بصلة؟ وأمام المغرب والجزائر فرص شتى لتعاون كبير في الصعيد الاقتصادي ثم إن البلدين يمثلان، من حيث مجموع السكان، ما يربو على ربع ساكنة الوطن العربي، وإنهما يمثلان النواة الصلبة لسوق مغاربية عظمى ومن ثم قوة في البحر الأبيض المتوسط. يعلم المهتمون بشؤون المغرب العربي أن قولا مماثلا ليس وهما كاذبا ولا سرابا خادعا بل إنه تقرير لحقائق أولية.

في الديمقراطيات العريقة تتوجه الدول بالسؤال المباشر في الأمور التي تتعلق بالقضايا المصيرية والحيوية وذلك هو الاستفتاء الشعبي المباشر. ذلك ما فعلته مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي حين عرضت مسألة الدستور المشترك، وهذا على سبيل المثال فحسب. وعلى سبيل المماثلة نرى في الوسع التساؤل على النحو التالي: ما المانع، حقا، من الأخذ، في الجزائر الشقيقة، بالمنطق ذاته ومن ثم طرح السؤال المباشر في شأن الاستمرار في الإبقاء على الحدود مغلقة بين الجزائر والمغرب أم أن الأنسب العمل على فتحها؟ من الطبيعي أن صيغة السؤال تختلف باختلاف اعتبارات ثقافية وأخرى سياسية غير أن الهدف يظل واحدا.

كثيرا ما تكون الفواصل بين المقتضيات السياسية والاعتبارات السيكولوجية فواصل هشة، بل لعل الأخيرة تكون لها الغلبة ولكن الأكيد أنها ضعيفة في حالة الخلاف الجزائري المغرب. لا غرو أن للتاريخ منطقه ولا شك أنه يسجل فلا ينسى ثم لا شك أن الأجيال المقبلة تنتظر التفسير وهي في حسابها لا تكون محابية ولا رحيمة. فأي جواب نمتلك أن نقدمه عن سؤال هو إلى علم النفس أقرب منه إلى السياسة؟