ابتزازات الوحدة وشهوات الانفصال

TT

ما كان حق تقرير المصير الذي طالب به مسعود بارزاني للشعب الكردي، أول الدعوات ولا آخرها. فقد سبقته إلى ذلك الحركة الشعبية بجنوب السودان، ثم حركات تحرير دارفور، والآن أعالي النيل ولا ندري أي ومن بعد بالسودان وجواره. وهذا فضلا عن اليقظة الكردية المتجددة في سورية، وحركة تقرير المصير المتجددة بالصحراء الغربية الشهيرة. ولا ينبغي أن نحسب الأمر مقصورا على الإثنيات والقوميات؛ بل هناك تحت جلدنا من يريد الآن الانفصال أو الاستقلال أو الحكم الذاتي. فقد أوردت الصحف في الأيام الماضية خبرا عن اتجاه أهل البصرة بالعراق إلى محاولة إجراء استفتاء من جديد على حكم ذاتي أو فيدرالية تشبه فيدرالية الأكراد، التي يريد بارزاني تجاوزها الآن (أو أنه لا يريد شيئا غير الابتزاز والمزايدة على طالباني)، باتجاه تقرير المصير أو الانفصال! ولنسلم جدلا بأن بارزاني يملك المبررات القومية، والاستعداد لذلك من طريق الاستقلال التعاوني الذي أقيم منذ عام 1992 بدعم من الولايات المتحدة؛ فماذا يريد الإخوة البصريون من وراء الفدرلة، ولماذا يريدونها؟ هل لأنهم من إثنية غير إثنية العراقيين الآخرين، أم أن تشيعهم هو غير تشيع أهل النجف وكربلاء والناصرية؟ أهل هذه الدعوة من ذوي الميول الجهوية الضيقة يقولون بصراحة إنهم إنما يريدون الانفصال أو الحكم الذاتي من أجل الحصول على حصة أكبر من البترول الذي ينبع من أرضهم، ويستفيد منه الآخرون أكثر منهم! ومرة أخرى، سوف أسلم لأهل البصرة بمطلبهم (المشروع)، وأنصرف لأنظر في استقلالية أهل دارفور، الذين لا خيل عندهم تهدى ولا مال. وقد بدأت مشكلتهم – بسبب غباء الحكومة السودانية وتحكمها - من الخلاف على المراعي بين من ينتسبون إلى العرب، ومن لا ينتسبون إليهم، ثم تطورت تلك المشكلة عندما تدخلت الحكومة السودانية من جهة، وحركات التحرير الثورية المدعومة من الخارج من جهة ثانية. وبعد سنوات من القتل والتهجير، والقرارات من مجلس الأمن، نجحت قطر في إجراء اتفاق بين الطرفين، لكن دعوات تقرير المصير ما انخفضت وتيرتها. والطريف والظريف أن الجامع بين كل تلك الحركات التحريرية أنها جميعا لها علاقات بإسرائيل، وأن هذه العلاقات تعود إلى زمن التأسيس، أو أنها تطورت فيما بعد خلال سني النضال. ورائدتها جميعا في ذلك حركة تحرير إريتريا التي يفتخر رئيسها أفورقي بذلك حتى اليوم. وقد كانت سائر حركات التحرير في الحرب الباردة تقيم علاقات بالاتحاد السوفياتي وأحيانا بالصين. لكن حتى في ذلك الوقت ما كانت تبتعد عن إسرائيل. أما في هذه الحقبة فإن كل التحريريين إنما يقعون في حضن الولايات المتحدة وإسرائيل. كما أن كل هؤلاء التحريريين يبدأون بالمطالبة بالإصلاح، ثم ينتهون إلى المطالبة بحق تقرير المصير بما في ذلك أهل «الحراك الجنوبي» باليمن!

لماذا هذه الكثافة في مطالب حق تقرير المصير، ولماذا يحدث ذلك في هذا الظرف بالذات؟ لا يمكن أن ننكر أن بعض الأنظمة السياسية مسؤولة بالدرجة الأولى وعبر عدة عقود عن قمع الناس على مختلف فئاتهم، والإساءة إليهم بداع وبدون داع. وهذا ظاهر في العراق وفي السودان وفي اليمن ومناطق أخرى كثيرة. بيد أن التمردات لم تتطور حينها إلى «حركات تحرير» وتقرير مصير، لأنها ما وجدت رعاة لها في ظروف الحرب الباردة وحقبة التسعينات. وقد كانت للاحتجاجات الصغرى تلك علائق من نوع ما بإسرائيل. فنحن نعلم الآن أن بن غوريون هو من اتخذ في مطلع الستينات من القرن الماضي قرار التدخل في المنطقة الكردية، وبجنوب السودان. وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين ظهرت الاستراتيجية التدخلية الأميركية الصانعة «للفوضى البناءة»، وكان من بين مقوماتها - بإقناع إسرائيلي أو دون إقناع - نشر حركات التحرير وحق تقرير المصير على مدى العالم العربي، الذي كان المثل يضرب بوحدته الإثنية واللغوية والثقافية. ونحن نعرف أن الولايات المتحدة إنما دخلت إلى كل من أفغانستان والعراق من باب المعارضات الإثنية والمذهبية والسياسية. فازدادت الأنظمة العربية ضعفا وتهافتا تحت وطأة الخوف من نوايا الولايات المتحدة وممارساتها. بيد أن الأميركيين ما تابعوا استراتيجيات التقسيم والتحرير، لانهماكهم في الصراع مع إيران، وحاجتهم إلى إقامة جبهة أو جبهات. بيد أن الآمال التي أيقظوها لدى سائر الفئات ما تراجعت ولا تضاءلت، ولا يزالون ينظرون إليها بعيون الرضا، لثقتهم من القدرة على الضبط، والاستخدام في الابتزاز؛ فضلا عن بقاء السياسة الإسرائيلية على ثوابتها في الشرذمة والانقسام. والملف الكردي شديد الدلالة على ذلك من عدة جهات. فباستثناء كركوك ومطالبة الأكراد بها (وهم يسيطرون عليها اليوم على أي حال)، حصل الكرد على أكثر مما طلبوا، جغرافيا وماديا وبتروليا، في مقابل عدم النص في الدستور على حق تقرير المصير لهم أو لغيرهم. وقبل شهر ونصف الشهر دعا بارزاني سائر الفرق السياسية العراقية إلى كردستان لمصالحتهم والتمكين من تشكيل الحكومة أخيرا، وقدم 19 مطلبا لمشاركة الأكراد حصل على 17 منها! وكان من ضمن تلك المطالب رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية، فما الداعي الآن للمطالبة بحق تقرير المصير وإن من الناحية المبدئية؟ قد لا يعدو الأمر الابتزاز للحصول على كركوك اعترافا. وقد يكون المقصود زيادة الشعبية على حساب طالباني. وربما أراد تخويف إيران وتركيا، والأميركيون والإسرائيليون من ورائه. بيد أن هذه الاعتبارات كلها لا تبرر التلاعب في أمر خطير كهذا. إنما من ناحية ثانية إذا كان السودانيون واليمنيون والصوماليون والإثنيون والمذهبيون، هؤلاء جميعا قد سمحوا لأنفسهم بالحلم بدويلات وسلطات وأوطان قومية على شاكلة الكيان الصهيوني وبدعمه، فلماذا لا يعود بارزاني وغير بارزاني للتفكير في ذلك ولو على سبيل الابتزاز؟!

هناك ثلاثة عوامل إذن لهذا النزوع المتجدد للتشرذم والتدمير: سوء الأنظمة والحكومات، والتدخل الأجنبي، وعدم الإحساس بالمسؤولية من جانب النخب السياسية والاجتماعية، التي تمشي في مشاريع التقسيم وتقرير المصير بدواعي الابتزاز أو شهوة السلطة والسلطان أو لأن الرعاة الأجانب يريدون منها ذلك الآن. وكل واحد من هذه العوامل يشكل بمفرده كارثة، فكيف وقد اجتمعت! لا حول ولا قوة إلا بالله.