مريخ السجناء والقتلة

TT

ماذا يعني أن يتجاوز سعر صرف الدولار الأسترالي، الدولار الأم؟ يعني عددا كبيرا من الأشياء، لعدد كبير من الناس والدول والمصارف. على صعيد شخصي، لا يعني لي أي شيء، لا أصدقاء لي في أستراليا ولا معارف. والصحف العربية الصادرة هناك، تعيد نشر مقالاتي، وترسل المكافأة رسائل شكر غير خاضعة لأي عملة في العالم.

الحقيقة أن الاقتصاد الأسترالي يتقدم سريعا، بسبب قربها من الصين، ولأنها بلاد شاسعة مليئة بالمناجم والثروات. عندما أطالع أخبار التقدم في أستراليا أتذكر شيئا واحدا، لقد رأى فيها المستعمر البريطاني ميزة واحدة. أنها أبعد أرض عراء يمكن أن يرمي فيها المحكومين في سجون بريطانيا! فقد ذهب البريطانيون إلى آسيا من أجل التجارة. واجتذبتهم أميركا بسبب حاجتهم إلى الأرض. أما أستراليا فاجتذبهم إليها، أنها سجن.

يقول المؤرخ نيال فيرغسون إن أستراليا في القرن الثامن عشر، كانت في وعورة المريخ اليوم. وفي بعده. أرض ليس فيها سوى حيوانات الكنغارو وغابات الصبار. لذلك عندما وصل الكابتن توماس كوك (1770) إلى نيو ساوث ويلز تنهد بارتياح وإعجاب: يا له من مكان نرمي فيه المجرمين والمحكومين. ومن سافر إلى تلك الجرود بعد الكابتن كوك، أشهر مسافر بريطاني؟ طبعا حزرت: اللبنانيون. وحاكم هذه الولاية الضاربة في الحداثة الآن، سيدة من لبنان.

بدأ البريطانيون «بشحن» السجناء إلى القارة في القرن السابع عشر. لكن مع أوائل القرن الثامن عشر، أصبحت أستراليا سجنا رسميا بموجب العقوبات المعمول بها في لندن. وعندما فقدت بريطانيا مستعمراتها في أميركا، ازدادت أهمية أستراليا كسجن، العقاب فيه طبيعي، والعذاب تلقائي، والهرب مستحيل. وكانت هناك فائدة أخرى لتلك الأماكن المستحيلة: يتم إرسال السجناء كمستعمرين، ويسبقون بذلك الإسبان والفرنسيين إلى تلك الأرض ورفع الإعلام.

كان البريطاني يبحر إلى آيرلندا الشمالية في يوم واحد. وإلى شمال أميركا في بضعة أسابيع. لكن من يطيق الإبحار مسافة 16 ألف ميل في سفن وأنواء تلك الأيام، لإقامة مستعمرة جديدة؟ كم استغرقت رحلة قامت بها سفينة إلى ما هو اليوم مدينة سيدني؟ الجواب، ثمانية أشهر. وكان أصغر المحكومين على تلك السفن صبيا في التاسعة، محكوما بالسرقة، وأكبرهم امرأة في الثانية والثمانين، اتهمت بتحقير المحكمة.

أحفاد هؤلاء أقاموا إحدى أرقى الدول في العالم. هكذا أسس البريطانيون أيضا الولايات المتحدة. هكذا أسسوا كندا الناطقة بالإنجليزية، وهكذا هو الحال اليوم: جميع دول التبني تجاوزت الدولة الأم.