من مات بداء الطاعون فهو شهيد

TT

رغم أن الإسلام هو دين العقل والتبصر، وأهله هم الذين يؤمنون بأنه ليس هناك داء إلا وأنزل الله له دواء، وهم الذين أكدوا أن ليس هناك من حدث إلا وله سبب وعلة، وليس هناك كلام إلا وله برهان، وليس هناك من عقل إلا وله فكر..

هم أو بعضهم الذين قالوا ذلك، إذن فما بال أجيال وأجيال وأجيال، وأزيد عليها من عندي كذلك «أجيال»، ما بال أجيال المسلمين منذ أكثر من (1300) عام - مع التحفظ على الرقم والتاريخ - أقول: ما بال هذه الأجيال عاشت في بوتقة هائلة مغلقة من الخرافة والأمراض العقلية الظلامية، وراحت طوال حياتها تقتات على فتات الآخرين.

والذي يبعث على الأسى أكثر أن هؤلاء الذين اقتاتوا ما هم إلا القلة الأقل من القليلة من الأسماء التي لم تستطع أن تزيح ولا حتى قلامة أظفر من هذا الركام الثقيل من الخرافات والشعوذات التي جثمت على صدور الشعوب المسلمة وحولت حياتهم إلى ما يشبه الهذيان المحموم الذي يكاد يصعب علاجه.

وبما أن الإنسان البسيط في التاريخ الإسلامي، سواء كان ذلك الإنسان رجلا أم امرأة، لا يثق ولا يسيره في حياته غير رجال الدين، فكان والحال كذلك، أو من المفترض أن يكون هؤلاء الرجال هم القدوة في رجاحة العقل، ونزاهة الضمير، وحسن المسلك، غير أن هؤلاء، مع الأسف، أو الغالبية العظمى منهم كانوا على النقيض تماما من افتراضي، والدلائل على ذلك أكثر من أن تحصى، وهذه الدلائل تقاطرت وأخذ بعضها برقاب بعض منذ منتصف القرن الهجري الأول حتى القرن الخامس عشر الذي نرزح الآن تحت ثقله وركامه، وأقول: إنه منذ ذلك التاريخ الطويل الممتد والحال كما هي الحال (محلك سر)؛ بلغة العسكر.

وإليكم شاهدا صغيرا؛ مضحكا ومبكيا في الوقت نفسه، وهو من الأزمنة القريبة جدا، فيقال: إنه في شهر يوليو (تموز) عام 1830 كانت بغداد على علم بتفشي الطاعون في تبريز بإيران، وبعد شهرين وردت الأخبار عن وصوله إلى كركوك، فطلب داود باشا من طبيب القنصلية البريطانية إعداد منهج للحجر الصحي، بغية منع الوباء من التقدم نحو بغداد. وقد أعد الطبيب المنهج، ولكن المتزمتين من رجال الدين في بغداد أفتوا بأن الحجر الصحي مخالف للشريعة الإسلامية، ومنعوا داود باشا من اتخاذ أي عمل لصد سير الوباء، ولهذا كانت القوافل الواردة من إيران وكردستان تدخل إلى بغداد بكل حرية.

وقد عمد الأوروبيون الذين كانوا في بغداد، والمسيحيون المتصلون بهم، إلى حجر أنفسهم في بيوتهم لا يخرجون منها، وذلك بعد أن جهزوا أنفسهم بما يلزمهم من مواد التموين. وكانوا إذا اضطروا إلى أخذ شيء من الخارج سحبوه إلى فوق من الشبابيك ثم أمسكوه بالملاقط ودخنوه قبل البدء في استعماله. ولهذا كانت الإصابات بينهم قليلة نسبيا.

أما سائر السكان فقد استسلموا للقدر، وأخذ الطاعون يحصدهم حصدا، حتى قيل إن عدد الموتى في اليوم الواحد كان يزيد على عشرة آلاف إنسان.

هكذا فعل رجال الدين، وحماة الإنسان.

على أية حال، ومما يريح النفوس، أنهم أفتوا، بعد ذلك، بأن كل من مات من المسلمين بداء الطاعون فهو (شهيد)، وافرحوا يا مسلمون.

[email protected]