الدولة الفلسطينية في العقل الرسمي الأميركي: حسم أم صراع؟

TT

اذن، اميركا ايضاً تفكر في دولة فلسطينية. والمثل الفرنسي يقول: «خير ان تصل متأخراً من الا تصل ابداً». اما المثل العامي، الاكثر تشكيكاً بسبب طبيعة الشعوب وخبرتها الطويلة، فيقول: «مش صحيح، فال مليح». ولفيروز اغنية شجية قديمة تقول: «تعا ولا تجي، الكذبة مش خطيي، ت ا ع ا ولا تجي»! وحلفاء اميركا واصدقاؤها في المنطقة كانوا يرددون هذه الاغنية سراً منذ زمن طويل، ولو ان محمود كحيل لم يكشف الامر في رسم كاريكاتوري. كانوا يريدون منها موقفاً، اي موقف، حيال القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والحقوق الفلسطينية، ان لم يكن من اجل فلسطين فمن اجل اميركا ومصالحها ووجودها في الشرق العربي. فقد كانت فلسطين هي عقدة العلاقة العربية الاميركية. وكان التأييد الاميركي المطلق لاسرائيل هو العقدة الاخرى. ولم تعرف هذه العقدة، بوجهيها، اي علاقة اخرى بين العرب والغرب. فقد مولت التعويضات الالمانية قيام اسرائيل، لكن المانيا كانت تقيم في الوقت نفسه علاقات حسنة مع العرب، ولم يكن دعمها لاسرائيل مرفقاً بتجاهل للحقوق الفلسطينية. وكذلك فرنسا وبريطانيا. فقد سعت جميع الدول والامم الى حد معين من التوازن في سياستها الشرق اوسطية، فيما بقي الموقف الاميركي وحده أحادي الاتجاه، تحكمه دوافع وسياسات وعناصر داخلية، وتتحكم به مؤثرات الداخل من دون اي حساب للانعكاسات الخارجية. وقد طلبت اميركا من العرب كل ما هو في مصلحتها الداخلية والعالمية: من النفط الى الدعم في محاربة الشيوعية. لكنها في المقابل تجاهلت حقوقهم ومشاعرهم. ويروي كتاب «العروبيين» ان كيسنجر سأل السفير الاميركي في الرياض، ريتشارد ايليس، كيف يمكنه التصرف خلال اللقاء مع الملك فيصل بن عبد العزيز، فهو يعرف انه يكره الصهيونية وسوف يخصص معظم الحديث لمهاجمتها. وقال له السفير: «ليس في مقدورك ان تفعل اي شيء سوى ان تصغي. فهذه قضية الرجل وهاجسه». اصغوا وامضوا. وكانت مهمة هنري كيسنجر بالذات ابعاد نفوذ «العروبيين» وتأثيرهم واصواتهم، عن الخارجية والبيت الابيض. لقد اغلق العقل الاميركي باحكام دون اي فكر عربي، لان ذلك كان يعني الاطلاع على الحقائق والنظر الى المآسي التي تحل بشعب بأكمله، الذين بقوا منه والذين تشتتوا والذين ولدوا في الخارج.

لكن دعنا الآن من الماضي. ان هذا الكلام الرسمي الخارج من اميركا اليوم هو كلام بالغ الاهمية. لقد تحدث ثلاثة اميركيين حتى الآن، من موقع المسؤولية او المسؤولية «الموازية»، عن «الدولة» الفلسطينية، او «الوطن القومي الفلسطيني». فقد تلفظ بالمصطلح الاخير الرئيس السابق جيمي كارتر في مجلس عادي في احد الارياف. وكان يومها حاضراً مراسل «اقتصادي» من «النيويورك تايمس» نقل الخبر الذي أقام اميركا ولم يقعدها الا بعد ان نسي كارتر انه قال مثل هذا الكلام في يوم من الايام. وفي المرة الثانية تحدثت هيلاري كلنتون عن ضرورة قيام «دولة فلسطينية» في ذروة الازمة التي كان يواجهها زوجها. لكنها انتقلت بعد قليل لتخوض معركة مجلس الشيوخ في ولاية نيويورك، حيث لا مكان لذكر دولة في فلسطين، التي ليست هناك سوى «الاراضي»، او «المقاطعات»، كما كانت تسمى المناطق الاهلية في افريقيا الجنوبية.

اي «دولة» فلسطينية؟ من هنا سوف تبدأ، معاناة دولية طويلة ومعاندات اميركية ـ عربية اطول ـ هذه ليست نهاية الطريق، هذه بدايتها ـ فإذا كانت بقية الاشياء واضحة ومحددة في بقية المسارات العربية الاسرائيلية فقد استغرق حلها سنوات طويلة: من سيناء الى وادي عربة. وبرغم وضوح جميع القرارات الدولية في النزاع السوري ـ الاسرائيلي فان عقداً كاملاً من المؤتمرات والمفاوضات وعقوداً من القرارات الدولية لم تستطع حل مشكلة بضعة كيلومترات مربعة مع اسرائيل عند مياه طبرية. فكيف ومتى ومن اين سوف يبدأ الاعتراف الاميركي بالدولة الفلسطينية؟

اي دولة؟ استناداً الى ماذا؟ الى اي قرارات دولية؟ هل هو قرار التقسيم؟ هل هي الوثيقة الاخيرة التي قدمها كلنتون لياسر عرفات في كامب ديفيد؟ هل هي اتفاقات اوسلو الخالية من القدس؟ هل هي اتفاق «الحكم الذاتي» الوارد في اتفاقات كامب ديفيد الاول؟ هل هو القرار 242 الذي يعيد كل شيء الى ما قبل 1967، بما فيه القدس الشرقية والمسجد الاقصى؟

ان قرار قبول اميركا بالدولة الفلسطينية سوف يكون خطوة اولى وحاسمة في الصراع العربي ـ الاسرائيلي. فإما ان يشكل هذا الاعتراف نهاية للصراع، على الاقل لدى القابلين بالحل السياسي، واما ان يتسبب في جدل جديد ومنطلقات جديدة للصراع وتفسيرات اخرى للقرارات الدولية. اذ قبل ان تقرر اميركا، بأي دولة ستعترف في فلسطين، يجب ان تحسم امرها في اي دولة تستطيع الدفاع عنها حيال اسرائيل واي دولة تستطيع ان تقنع العرب والفلسطينيين بقبولها. فقد قطعت المسيرة الفلسطينية تلك المرحلة التي كان يقول فيها ابو عمار انه يقبل دولة تقام في اريحا.

لكن برغم ذلك كله، برغم كل شيء، فإن القرار الاميركي القادم متأخراً نصف قرن هو محطة جديدة ومفترق شديد الاهمية في تاريخ الصراع. ولعل من اهم شروط البحث فيه، ذهاب حكومة شارون. وربما تكون الدلائل الاولى قد ظهرت. اذ بدأت محكمة اسرائيلية بالتحقيق في مخالفات شارون الضرائبية! وكانت حكومة اسحق رابين الاولى قد سقطت بسبب ضرائب زوجته. وكذلك سقط نتانياهو. فلنبدأ العد!