للنائمين العرب: مخطط تفكيك أوطانكم في (مرحلة التطبيق)

TT

1949 صدرت رواية (1984) للمفكر السياسي والروائي المبدع جورج أورول.. وعنوان الرواية عجيب ومثير. فالعنوان ترجمة صريحة لاستطلاع أورول لمصير الاتحاد السوفياتي.. وما هو أعجب من ذلك كله: أن (توقعات) أورول قد صحت ((!!!))، ليس من حيث مضمونها فحسب، بل من حيث توقيتها. ففي ذات التاريخ الذي جعله أورول عنوانا لروايته: بدأ الاتحاد السوفياتي يتفكك، وهي بداية أخذت تتسارع حتى بوغت الناس بانهيار ذلك الكيان الضخم.

وإذا كان أورول قد استند إلى ملاحظات وظواهر وقرائن لا تخلو من (خيال)، فإن الموضوع الذي بين أيدينا اليوم يستند إلى (وقائع) موضوعية: أثبت مضمونا، وأكثر رجحانا - بالمقياس الزمني -: ليس فيها للخيال موضع.

وموضوعنا المحدد هو: أن الوطن العربي يتعرض للتفكيك والتفتيت، لا نقصد بذلك أن العرب (موحدون) اليوم، وجاء المخطط ليفتت وحدتهم. فواقع الحال يقول: إن العرب اليوم 22 دولة، لا دولة واحدة. وإنما المقصود هو تفكيك (الدولة الوطنية) ذاتها، من خلال انفصالات جغرافية وسياسية وإدارية: تصدع كيانها الموحد.

وهذه هي الوقائع: المستمدة من الواقع - لا من الخيال -:

1- إن جنوب السودان يوشك أن ينفصل عن المركز أو الدولة الوطنية الأم، فسياقات الأحداث - الوطنية والإقليمية والدولية - تبدو وكأنها تنتظر إعلان الانفصال فحسب!

يجري هذا، بينما العرب جميعا في (حالة استرخاء)، على حين أن هذا خطر قومي عام، لا خطر وطني خاص، وهو خطر نبه إليه بوضوح، وحذر منه بقوة وذكاء: الكاتب والمفكر السياسي العربي الشهير الأستاذ أحمد بهاء الدين - رحمه الله - فقد كتب مقالا - في وقت مبكر جدا - خلاصته: أن انفصال جنوب السودان يعني: بداية العد العكسي للوجود العربي كله!!. وقد يقصد الأستاذ بهاء: أن انفصال جنوب السودان: تهديد مباشر لحياة أكبر قوى بشرية عربية وهي مصر بحسبان أن جنوب السودان حين ينفصل سينضم - لأسباب عديدة - إلى تكتل دول منبع النيل التي ستكون أفريقية خالصة: ليس من بينها دولة عربية واحدة.. وقد يقصد: أن انفصال جنوب السودان سيكون (سابقة جغرافية سياسية): تلحقها لواحق في بلدان عربية أخرى.

2- والتوقع الثاني لبهاء الدين يمثل الواقعة الثانية من وقائع التفكيك والتفتت.. ففي المؤتمر العام للحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق - الذي انعقد منذ أيام -: رفع - بقوة - مبدأ أو شعار (حق تقرير المصير) للأكراد.. وهذا مبدأ يكون - دوما - (قاعدة) للانفصال عن الدولة الأم، ولكن شعار حق تقرير المصير: ألطف وأخف وقعا وهولا من شعار (الانفصال) ألم يكن أول الأمر في جنوب السودان (حق تقرير المصير)؟.. وإذا افترض - جدلا -: أن للجنوبيين في السودان (مبررا) ما للانفصال، فليس لأكراد العراق حجة البتة إلا أن يكون تقرير المصير أو الانفصال محض ترف!!.. فبسقوط نظام صدام حسين: رفع الظلم عنهم، وظفروا بحقوقهم وتمتعوا بحكم ذاتي منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، بل أصبح رئيس جمهورية العراق رجلا كرديا.. ثم ما قيمة.. ما معنى التلفظ بـ (وحدة العراق): إذا طالبت أقاليمه بحق تقرير المصير؟. فما ينادي به الكرد سيكون سابقة أو قدوة لأقاليم أخرى، وبذا تنتهي الدولة الوطنية الواحدة.

3- تقدم الولايات المتحدة الأميركية مساعدات إنمائية لإقليمين صوماليين انفصاليين هما: أرض الصومال، وبونتلاند.. ولقد سارعت إسرائيل إلى الاعتراف بهذين الإقليمين.

4- في اليمن: توجهات (جنوبية) صريحة تنزع إلى الانفصال عن الشمال، أو إلى إعادة الأحوال إلى حقبة ما قبل الوحدة.

5- في لبنان: نزوع هامس - وأكثر من هامس - إلى فكرة تصديع البلد إلى كيانات متعددة: كمخرج من الأزمات المتلاحقة أو المزمنة.

إن هذه الوقائع والأمثال (برهنة) سياسية واستراتيجية على أن مخطط تفكيك الأوطان العربية قد دخل (مرحلة التطبيق).

من وراء هذا المخطط؟.. لا موجب لاستدعاء نظرية المؤامرة - ها هنا -. فالاستراتيجيات الصهيونية جد واضحة في هذا الشأن: لا تحتاج إلى مؤامرة!!

أولا: الاستراتيجية الصهيونية (النظرية) وقوامها: أن بقاء إسرائيل وتماسكها وازدهارها مشروط بوجود عالم عربي ضعيف ومفكك ومتخلف.

ثانيا: الاستراتيجية (التطبيقية) ومن صيغها العملية:

1- أن إسرائيل حاضرة بقوة في جنوب السودان. وأن نتنياهو مكترث - شخصيا - بهذا الملف.. ومن دوافع هذا (التدخل): تطويق الوطن العربي في أعاليه وتخومه (ولهذا السبب أقامت إسرائيل علاقات وثقى مع إيران الشاه وتركيا أتاتورك).. والدافع الثاني هو: خنق مصر والسودان من خلال النفوذ الصهيوني المضاعف في دول منبع النيل شريان الحياة لمصر والسودان)

2- أن إسرائيل حاضرة في كردستان العراق: حاضرة بمختلف آليات الحضور وصوره.. ومن دوافعها في هذا الحضور: الضغط - من أقرب نقطة - على العراق نفسه، وعلى تركيا وسورية وإيران.

3- وإسرائيل حاضرة في الصومال. وبموجب هذا الحضور سارعت إلى الاعتراف بالأقاليم الانفصالية - كما سبق القول منذ قليل -.

وتمام الموضوع نقطتان: لا يتم تمامه إلا بهما:

أ- النقطة الأولى: أن تبعة التفكيك لا يبوء بها العدو وحده، ذلك أن الحكومات المركزية اقترفت من الخطايا المركبة قدرا هائلا أعان الأعداء على تحقيق مخططاتهم.

ب- النقطة الثانية: أن هناك صورا أخرى لتفكيك الأوطان، ومنها صورة: تصديع الجبهة الداخلية أو الوحدة الوطنية بصراعات فكرية وثقافية واجتماعية الخ: تمزق الوحدة الوطنية على المستوى الفكري، وإن ظلت الوحدة الجغرافية والسياسية قائمة.