يوم الجمعة المشهود

TT

يوم الجمعة الفائتة قبل أمس، الموافق العاشر من ديسمبر، كان يوما عاديا لمعظم البشر، يوم مثل كل الأيام. إلا أنه لبعض البشر، وربما قلة، كان يوما مشهودا. في ذلك اليوم منح شخص اسمه ليو زيابو يقبع في سجن صيني في شمال شرقي الصين معزولا عن الناس منذ عشرين عاما، منح جائزة نوبل للسلام. كان خطاب رئيس اللجنة النرويجية لجائزة نوبل للسلام مثيرا للفكر والتفكير، ومكانا للتأمل والأمل. المشهد غاص بالحضور، رجال ونساء من كل صوب حضروا الاحتفال. وهناك كرسي في وسط القاعة ترك فارغا إلا من صورة لليو زيابو الغائب الحاضر، الذي منعت حتى زوجته أو أحد أقربائه من حضور الاحتفال لتسلم الجائزة التي خصصت لاسمه.

تحدث رئيس اللجنة نوربرون جاجلند في خطابه حديثا إيجابيا عن المنجزات الاقتصادية الصينية التي يعترف بها العالم، وأن هناك ملايين الصينيين قد أنقذوا من الفقر بسبب تلك السياسة الاقتصادية الحصيفة، مما جعل الحضور يهللون بالتصفيق. هذا شيء، والشيء الآخر هو حقوق الإنسان، التي تراها لجنة الجائزة منقوصة في تلك البلاد الواسعة والكبيرة والقادمة حثيثا إلى الساحة العالمية.

قال رئيس اللجنة في خطابه، إن قناعة اللجنة والعاملين في جائزة نوبل للسلام، ومنذ زمن بعيد، أن حقوق الإنسان لها علاقة إيجابية وثقى بالسلام، فكلما انتشرت حقوق الإنسان ووطدت في الأرض، زادت فرص السلام بين الشعوب، وابتعدت البشرية عن الحروب. لذا فإن ليو زيابو الصيني الذي منح الجائزة، حصل عليها «لطول كفاحه السلمي لتعزيز فكرة حقوق الإنسان الأساسية في الصين» وهو بذلك يعمل من أجل السلام.

كل ما سبق يبدو في الغالب عاديا، إلا أن غير العادي، والذي دفعني للكتابة حول الموضوع، هو علاقة جائزة نوبل للسلام بمحاربة الشمولية والقمع والديكتاتورية.

سرد رئيس اللجنة في خطابه - الذي تجاهلته مع الأسف معظم وسائل الإعلام العربية - سرد حقائق لافتة للنظر، تؤيد تلك العلاقة الإيجابية وضرب الأمثلة.

قال: في عام 1935 فاز الألماني كارل فون اوستنزكي بجائزة نوبل للسلام، فمنع أدولف هتلر، ديكتاتور ألمانيا وقتها، كل ألماني من قبول أية جائزة من جوائز نوبل، ونحن اليوم نعرف ماذا كان مصير أدولف هتلر وحلمه النازي في نهاية المطاف. كما غضبت موسكو السوفياتية عندما حصل اندري زخاروف في عام 1975 على الجائزة ومنع من الحضور وقامت زوجته بحضور احتفال الجائزة، وسط غضب شديد وزوبعة إعلامية مضادة من الدولة السوفياتية وقتها، ونحن الآن نعرف ما حصل بعد ذاك لهيكل الدولة السوفياتية. أما المناضل لخ فاليسا البولندي الذي قاد حركة عمال الميناء، المسماة «تضامن»، فقد حصل على الجائزة عام 1983، السلطة البولندية وقتها واجهت هذا التكريم للمنشق في نظرها لخ فاليسا بغضب شديد، وأيضا منعته من الحضور لتسلم الجائزة، ونحن اليوم نعرف على أي وجهة تطور الوضع السياسي في بولندا التي سقطت فيها ديكتاتورية عنيدة وأصبح لخ فاليسا رئيس بولندا الديمقراطية بين عامي 90 و1995. وعندما فازت اينغ سن سو كيا من بورما عام 1991 بالجائزة، منعت هي الأخرى من الحضور إلى أوسلو لتسلم الجائزة، وعلى خلفية غضب شديد من السلطة البورمية آنذاك، وما زالت بورما تعاني اضطرابا سياسيا، إلا أن جنرالات بورما اضطروا إلى أن يفرجوا عن اينغ سن سو بعد فترة طويلة من الاحتجاز.

جنوب أفريقيا العنصرية منعت كلا من البرت لوتلي، ومن بعده القس دزمند توتو من حضور احتفال الجائزة عام 1960 وعام 1984 على التوالي، وغضبت سلطات بريتوريا العنصرية وقتها على الجائزة ومقدميها ومنعت الاثنين من حضور تسلم الجائزة. المفارقة أن نيلسون مانديلا، بعد ذلك بسنوات (1993) حصل عليها وتسلمها في حفل مهيب، بعد سقوط نظام التفرقة العنصرية، وتسلمها مع غريمه رئيس الوزراء السابق للنظام العنصري ديكليرك بعد تفكيكه. السلطات الإيرانية لم تمنع شيرين عبادي الإيرانية التي تدافع عن حقوق الإنسان من الحضور لتسلم جائزتها، إلا أن السلطات الإيرانية احتجت على حصولها على الجائزة عام 2003 وامتنع السفير الإيراني من حضور الاحتفال الخاص بتسلم الجائزة لمواطنته شيرين ثم دخلت في متاعب شتى.

هذا السرد الذي أصبح الآن متاحا للجمهور على الموقع الرسمي لجائزة نوبل للسلام، يعطي من يريد أن يستخدم عقله توجه سيرورة التاريخ الحديث في هذا العالم الذي يصغر كل يوم ويزداد ترابطا. وهو عالم لم يعد منفصلا عن بعضه البعض بالحدود الجغرافية، لقد تلاشت تلك الحدود وأصبحت الأفكار هي العابرة للقارات. والفكر هو أعظم اختراع للبشرية الذي قادها للدفاع عن الحقوق الأساسية للإنسان. فمع اعتراف منظمة نوبل للسلام لما سمته «القفزة الاقتصادية غير المسبوقة تاريخيا في العقد الماضي في الصين والتي لم تعرف لها الإنسانية مثيلا»، كما نص الخطاب الرسمي، إلا أن العودة للفكرة القائلة إنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، هي فكرة متجذرة في عقل كل إنسان، هي الكرامة التي لا يعوضها العيش الرغد.

وبالتجول في فضائنا العربي، وعلى الرغم من أن ديننا الحنيف ينص على احترام كرامة ابن آدم الذي كرمه الله عز وجل، نجد أن أكثر الدماء تدفقا في هذا الفضاء الواسع، هي الدماء العربية. تقول لنا الإحصاءات المنشورة إن أكثر من سبعين روحا تزهق يوميا من العرب بسبب هذا التعصب الأعمى الذي ورث الإرهاب تحت أسماء مختلفة، وما زال الحبل على الجرار، وأن بعض سجوننا تمتلئ دون محاكمة بمواطنين طالبوا بحقوقهم. إلا أن ملخص ما تريد أن تذهب إليه نتائج جائزة نوبل الدولية، أن حبل القمع للإنسان من أخيه الإنسان قصير، أجاء من مجموعات الإرهاب أو من غيرها.