العالم على مفترق طرق بين التروي والخوف

TT

من حسن حظ الجميع ان الادارة الاميركية ملتزمة بالتروي قبل اللجوء إلى العمل العسكري ردا على عمليات التفجير قبل ثلاثة اسابيع، ومنبع الحظ هنا ان توفر الوقت في الاجواء المتأزمة يؤدي دوما الى الحوارات وفتح الملفات، وهذا ما يحصل فعلا كل يوم وفيه افادة للجميع. قد يكون سبب التروي الاميركي عائدا الى كسب الوقت في بناء تحالف دولي مضاد للارهاب، وقد يكون السبب سعيهم لجمع المعلومات الاستخبارية اللازمة للحرب او ايصال المعدات. لكن علينا عدم تجاهل ان يكون التروي مرتبطا بالبحث عن الجناة والمدبرين للتفجيرات، اذ في كل الاحوال لابد من معرفة اكيدة بهم، واذا كانوا فعلا اعضاء في تنظيم «القاعدة» فان الولايات المتحدة ستكون بحاجة للتأكد من انها شلت قدرات هذا التنظيم في الخارج، أي في الغرب واميركا تحديدا، قبل شنها الحرب عليهم في افغانستان حتى لاتثير انتقاما في المقابل، كون الذي خطط ونفذ عمليات التفجير ربما يكون قد استعد لاحتمالات المستقبل. وبهذا الصدد يشار الى قناعة خمسة وثمانين بالمئة من الاميركيين باحتمال تكرار عمليات ارهابية قوية في بلادهم. كبار رجال الحكومات الغربية يتحدثون عن احتمال استعمال السلاح الكيميائي او البيولوجي من قبل الارهابيين. ومصانع الاقنعة الواقية من الغازات غير قادرة على مواجهة الطلب في الاسواق. المدعي العام الاميركي اشار مطلع الاسبوع الى التخوف من فعل انتقامي ارهابي على اثر العمل الحربي المتوقع في افغانستان. لهذا لا غضاضة في التروي، خصوصا ان القاصي والداني يعرفون قدرة اميركا على الرد. الولايات المتحدة سوف تتروى ـ كما هو حاصل ـ قبل الرد والانتقام، اذ على واشنطن التعرف على كل صلات المتهمين بالهجمات، وعلى اهدافهم، فربما لم يتحقق هدفهم الاصلي، وبالتالي قد يستغلون الانتقام الاميركي لعمل ارهابي جديد افظع من سابقه على أمل تحقيق هدفهم الاصلي. الملاحظ هنا ان الناس العاديين في اوروبا يطالبون بالتحقق من الاثباتات وبرؤيتها ايضا لان تقصير اجهزة الامن لا يشجع على تصديق اقوالها. ان التروي الاميركي قد يكون مرده البحث عن الصيادين في المياه العكرة وشل قدراتهم سواء عرف الجمهور بذلك او بقي الامر سرا. الخوف يسيطر على الجميع لان الامر لم يحسم بعد، وفي مقدمة الخاسرين والخائفين هناك العرب والاسلام الذي يتعرض للتشويه بأضعاف تلك المحاولات القديمة التي قادتها هوليوود. وهناك شعوب اوروبا والاميركان الخائفون على ارواحهم والخاسرون لحرياتهم ونمط حياتهم واموالهم ووظائفهم من جراء ما حصل وما قد يحصل من حروب وانتقامات تجرجرهم بدون حساب. ولا ننسى طبعا المعاناة الاضافية للشعب الافغاني وزيادة اللجوء، علما أن توجه انظار العالم مجددا لافغانستان قد يثمر خيرا. مسببات الخوف في العالم الغربي كثيرة، قديمة وجديدة، نفسية وفعلية، وباختصار تكونت قناعة بأن الارهابيين الذين خططوا ونفذوا التفجيرات بشكل مذهل مكنهم من مفاجأة الجميع مرة اخرى، وهنا انبرت الاجهزة الاستخبارية والعلمية والسياسية، والصحافية طبعا، في سباق ذهني لاختراع الارهاب القادم واجمعت على السلاح الكيميائي والبيولوجي ضمن قائمة الرعب المنتظر. كل ذلك من دون تقديم العلاج او اساليب الوقاية، مما ادى الى المزيد من الهلع خصوصا مع الحديث عن الخلايا الناعسة والنائمة وأنها بالمئات (الاعلام الالماني المهول دوما يتحدث عن آلاف الارهابيين). اهل العلم المفترض ان لديهم القول الحاسم في الامر اختلفوا، وانضمت منظمة الصحة العالمية للمتحدثين عن اخطار ارهابية كيميائية. من الواضح ان وصفات صناعة عدة انواع بدائية من الاسلحة الفتاكة متوفرة في المجلات العلمية الروسية والغربية وفي الوسائط الاخرى المتاحة للمهتمين، ولكن مشكلة المنظمات السرية هي عمليتا التصنيع والاستعمال للاسلحة الفتاكة، بل ان الاستعمال الفعال هو مشكلة تواجه بعض الدول المصنعة للاسلحة الكيميائية. ويجمع معظم اهل الاختصاص على ان تصنيع هذه الاسلحة يحتاج الى قدرات فنية عالية والى معامل ومختبرات مزودة بمعدات لا تتوفر الا في القليل من الدول، والقضية ابعد ما تكون عن خلطة في مطبخ او كهف. السلاح الذي استعمل في اليابان اثبت صعوبة التصنيع والاستعمال، فقد كان من النوع الذي استعمل في الحرب العالمية الاولى، وتأثيره الذي قتل «دسته» من اليابانيين جاء لانه استعمل في نفق. وما عرف عن اسلوب الاستعمال ان الارهابيين وضعوه في بالونات ثم فتحوا مظلات ذات رؤوس مدببة لتفجيرها ولتحميهم من الغاز وهم يركضون بعيدا عنه. حتى طائرات رش المزروعات التي اصبحت تُربط بالجنازير كل يوم في اميركا وتحت حراسة مسلحة، هذه الطائرات وأجهزتها غير مؤهلة لتحويل السائل الكيميائي الى رذاذ فعال. ورغم ظروف تفجيرات الشهر الماضي فهي حتما لا توحي بأن المفاجأة التالية ستحتوي على حل معضلات التصنيع واستعمال السلاح الكيميائي او طبعا البيولوجي الاصعب. اذا حصلت الكارثة ووقعت اعمال كهذه فسيكون ذلك دليلا اضافيا على وجود اصابع واياد واجهزة لدول قوية في امكانياتها. إذن، من هم الذين استفادوا للآن من قلب الطاولة العالمية عبر التفجيرات ؟ حتما ليس تنظيم القاعدة الذي سيزول عن الارض ولا توجد له أي فرصة للاستفادة السياسية مما يُنسب اليه. كما ان الجماعات الاصولية التي عششت في الغرب للعمل ضد حكوماتها الاصلية اصبحت في خبر كان. ولان التهمة اتجهت الى افغانستان فذلك يتطلب مراجعة موجزة لبعض تطوراتها قبل توضيح معسكر المستفيدين من هذه الاحداث، ربما بالصدفة والله اعلم. حتى عام 1973 واثناء انشغال العرب في قضية الاحتلال الاسرائيلي، كان في افغانستان ملك اسمه محمد ظاهر شاه يكثر من فتح الجامعات ويشجع على التعليم للجميع وخصوصا للاناث ويحاول مسايرة النظامين العلمانيين المحيطين ببلاده، ايران الشاه، والاتحاد السوفيتي. وامتاز الملك بالقدرة على تجميع طوائف وقبائل افغانستان حوله. في العام المذكور استولى نسيب الملك على البلاد وبقي محمد ظاهر في الخارج، وتوالت الاحداث بانقسامات وصراعات وظهور اصولية دينية اخافت الاتحاد السوفيتي على جمهورياته الاسلامية والمجاورة لافغانستان. وجاء انقلاب ثوري في عام 1978 تلته حكومة منتخبة واجهت هجمات، فطلبت دخول السوفييت للبلاد الذين اسرعوا للاحتلال خوفا من تأثيرات الثورة الاسلامية في ايران على جارتها افغانستان. هنا لاحت الفرصة للولايات المتحدة للثأر لهزيمتها وللانتقام من الدعم السوفيتي للفيتناميين، فدعمت واشنطن المجاهدين وسلحتهم وشجعت الجارة باكستان على مساعدتهم وتبني أمرهم، وكانت باكستان المستفيد الاول من تلك الازمة. وبعد عقد من الخراب وتعطيل فرص الحل السلمي انهزم السوفييت وتحطم ايضا اتحادهم ونسي الغرب افغانستان والمجاهدين وباكستان واهتموا بروسيا لتجنب شرور تفكك امبراطوريتها. القصة بعد ذلك معروفة، ترك ايران وباكستان تعانيان من اللاجئين، وترك افغانستان بين امراء الحرب والدمار الذين علقوا البشر والتلفزيونات على الشجر وألغوا وجود نصف المجتمع. اما الروس فقد اركنوا جانبا بعد ان أمن الغرب شرهم وعادت واشنطن تقرر بمفردها وتخطط لحرب الفضاء وتلغي ما تريد من المعاهدات، أي تبرطع لوحدها في الفضاء والمياه وعلى الارض. بعد التفجيرات في الشهر الماضي عادت الحاجة الاميركية للبشر في الارض، حاجة لباكستان التي تستقبل وتودع الوفود التجارية والداعمة هذه الايام، وحاجة الغرب لروسيا ورئيسها بوتين الذي يتسابق الغرب على دعوته واسترضائه الآن، وعادت روافد المال في طريقها الى موسكو وعم السكوت عن قضية الشيشان. وتولدت حاجة ايضا للأموال التي كانت ستنفق في اقامة الدرع الفضائي الصاروخي الذي عارضه الروس بشدة، فالمال يُحتاج اليه الآن لمقاومة الارهاب واسترضاء بعض الحلفاء. ايران هي الاخرى استفادت، اذ كانت في حالة عداء مع حكومة طالبان في كابول، كما ان الوضع الجديد فتح امامها امكانية علاقات جديدة ومتكافئة مع واشنطن مما يساعد طهران في سياستها الاقليمية تجاه العراق والجزر العربية المحتلة والموقف من «مجاهدي خلق» المعارضين لحكومتها. حكومات البلدان الواقعة بين موسكو وكابول قد تستفيد بشكل مضاعف، فتحالفها مع واشنطن والغرب سيريحها من مخاطر الاصولية التي تبثها حركة طالبان في بلادها، كما ان الاهتمام الغربي قد يوفر الاموال والخبرات اللازمة للاستثمار في استخراج النفط المتوفر بكثرة في تلك البلاد، ويوفر طبعا الاسواق المستهلكة للنفط، من دون نسيان آمال تلك الحكومات بدعم وتأييد غربي يساعدها على الاستقلال الفعلي عن موسكو.

أما اسرائيل فقد ظنت في البداية انها ستكون اول الرابحين، وهذه قصة اخرى تحتاج لمراجعة منفردة.