ثقافة مكافحة الإرهاب.. وظاهرة الخَلْط

TT

على اثر ارهاب 11 شتنبر (ايلول) وما اعقبه من ردود الفعل اخذ الفكر العالمي يشكل ثقافة جديدة يمكن تسميتها بثقافة مكافحة الارهاب في مواجهة ما يمكن تسميته بثقافة الارهاب بالمعنى العام لكلمة الثقافة وليس بمفهومها الحضاري.

ومن يتابع الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع عبر العالم ومواقع الانتيرنيت يندهش لوفرة معطيات ثقافة مكافحة الارهاب وما تحفل به من آراء ونظريات، تتفاعل فيما بينها او تتعارض، لكن تنوعها اثراء لها وعامل مساعد على ممارسة سلطة الفكر العالمي رسالتها في مكافحة الارهاب بعمق وعقلانية.

الإعلام العالمي حافل في هذا المجال بالرأي والرأي الآخر، والاتجاه والاتجاه المضاد ولا يقتصر على الرأي الواحد. وهو ما يعني ان الثقافة الجديدة حية نابضة بالابداع، وليست ثقافة مسطحة او محنطة لا حراك بها.

وهذا الاسهام الفكري الذي يثرى بالتنوع ويتحرك بقوة لتشكيل ثقافة مكافحة الارهاب اهم بكثير مما يسعى اليه الفكر الاستراتيجي الذي يعمل لخلق تحالف دولي ضد الارهاب. فهذا التدبير لا يكفي ما لم يُطوِّق الفكر الثقافي جيوب الارهاب العالمية بنشر الثقافة الجديدة لاجتثاث «ثقافة» الارهاب من جذورها الذهنية، وهو عمل غير سهل لكنه ـ لا محالة ـ بالغٌ قصدَه.

ان ما تقوم به ثقافة مكافحة الارهاب يتطلب نَفَسا طويلا وجهدا عالميا ووقتا اطول بكثير مما تتطلبه عملية عسكرية لنسف قواعد الارهاب هنا او هناك. فهذا انتصار موقوت في معركة محدودة في الزمان والمكان. اما تغلغل ثقافة مكافحة الارهاب في مكامن الفكر وبواطن الوجدان فهو الجهاد الاكبر الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان ومعاقبة المجرمين الى إحداث ثورة في المفاهيم تمضي على خطوات قد تكون وئيدة لكنها مؤدية الى الهدف بكل يقين.

اعتقد ان الولايات المتحدة الامريكية تجاوزت آثار الصعقة التي اوقعها فيها ذلك الزلزال الاجرامي الفظيع الذي كان يسائلها اثر وقوعه ويُلحّ عليها للاسراع الى انزال ضربة قاضية ضد واحد من جيوب الارهاب حيث يوجد المشتبه فيه الاول، ثم ارتفعت فوق فورة العاطفة المشروعة لتنظر في الارهاب بجدية كبرى تنطلق اساسا من التعرف الدقيق الى هويته، واكتشاف مخابئه، والتعمق في وسائل عمله ومعرفة خلفياته. واظن انها مقتنعة بان ارهابا عالميا لا يُقابَل فقط بضربة انتقام، وانما بمجهود عالمي يلتقي على فضائه العالم المتحضر بجميع توجهاته الفكرية ودياناته ومعتقداته وحضاراته ليكسب فيه ضد الارهاب حربا ساحقة، وليس معركة محدودة الفضاء.

والبداية في كل حرب تنطلق من معركة العدو او الخصم، حتى لا تُشَنَّ الحرب على الاشباح. وهذا ما يعمل له الاعلام الامريكي في الولايات المتحدة هذه الايام، بما يقدمه من مساهمات متنوعة في إغناء ثقافة مكافحة الارهاب والعمل على تطويقه بها حيث يوجد.

في كل جهة من جهات العالم توضع ظاهرة الارهاب على مشرحة الكشف عن خصائصها واغراضها، ودواعيها، ومسبِّباتها. ولم يتأخر الفكر العلمي في الولايات المتحدة الامريكية عن ركب الفكر الحضاري العالمي الذي يؤسس لثقافة مكافحة الارهاب ويغنيها كل يوم بمعطيات بحوثه وتوجهاته.

ويقوم في الولايات المتحدة اليوم حوار للبحث في الارهاب وتحليل طبيعة الزلزال ومحاولة فهمه. ويتحول الحوار احيانا الى جدال بين المثقفين، لكنه ليس جدالا عقيما يتقوقع فيه كل طرف في موقفه، بل هو حوار مفتوح يعمل بطريقة «كل شيء قابل للنقاش». ويعتمد قاعدة ان اقرب الطرق الى الوفاق هو المرور بطريق الاختلاف.

يقوم بعض المثقفين الامريكيين ـ ومن بينهم اكاديميون مرموقون ـ بنقد ذاتي لسياسة الولايات المتحدة يستهدفون به اغناء ثقافة مكافحة الارهاب، ولا يَتوخَّوْن منه انتقاد سياسة بلادهم او التشهير او اللمز، فالنقد غير الانتقاد. النقد بناء والانتقاد هدم. والولايات المتحدة في حاجة الى البناء على اسس جديدة. والعالم معها في حاجة كذلك.

في جملة ما انتهت اليه ثقافة مكافحة الارهاب عبر العالم اعتبارُ تاريخ 11 شتنبر (ايلول) بداية عهد جديد، بل منطلقاً لاقامة نظام عالمي جديد بمفاهيم جديدة تختلف عن مفاهيم النظام العالمي القائم بعد حرب الخليج الدولية. ويبدو ان الادارة الامريكية ـ وعلى رأسها الرئيس بوش ـ اخذت تتجه نحو مراجعة النظام العالمي القائم بتقويم مُعْوَجِّه واصلاح خلله. وقد اعطى الرئيس الامريكي اشارات واضحة لهذا الاتجاه من خلال توسيعه حلقة التشاور مع اطراف العالم والعودة الى التعاون مع منظمة الامم المتحدة، وبدون اقصاء اية قارة او أي دين او عرق من مجال التشاور. ويدخل في ذلك حرصه على انخراط العالم العربي الاسلامي في التحالف ضد الارهاب وتنحية اسرائيل عنه، ومعاملته المتميزة التي يجب التنويه بها لمنظمات العرب والمسلمين الامريكيين، وصرخته المدوية لتبرئة الاسلام من تهمة الارهاب «لأنه دين سلام يناهض العدوان والعنف».

وتلك مساهمة مشكورة قدمها الرئيس الامريكي على طريق رفع الخلط الذي تحاول قوات شيطانية تغذيته بادخال توجهات خبيثة في ثقافة مكافحة الارهاب.

وقد توهمت بعض هذه القوات ان ما وقع في نيويورك وواشنطن يوفر لها فرصة لتصيد في الماء العكر، وتُؤلِّبَ العالمَ الذي توحد حول مكافحة الارهاب على الاسلام والعرب باعتبارهما خصوم الغرب في عملية انتقامية غبية مقيتة.

ففي اسرائيل مثلا نشرت مجلة تحمل اسم «إسرائيل من الداخل» في عددها المؤرخ بـ 14 شتنبر (ايلول) المنصرم مقالا من نوع هذا الخلط الخبيث امضى عليه مديرها الناشر «رُوفَن كُوريتْ» دعا فيه «لردع الارهابيين المسلمين بالهجوم على مكة المكرمة لتقويض الكعبة التي يقدسها المسلمون». وزاد يقول: «وستكون ضربة هذا الرمز المقدس عند المسلمين احسن جواب على عملية الاعتداء على نيويورك وواشنطن. وبذلك يتحدث الغرب الى القتلة باللغة الوحيدة التي يفهمونها».

انها دعوة الى حرب صليبية صهيونية لا يُقدِّر منظِّرها شأن عواقبها ما دام الرد الذي يقترحه يشفي غليل بلاده من اعدائها.

وفي فرنسا نشرت جريدة «الفيغارو» الباريسية في صفحتها المعنونة «نقاشات وآراء» مقالا كتبه الباحث المتخصص في الدراسات الاستراتيجية «أليكسندر دي لْفال» Alexandre Del Vall تحت عنوان «أسس الارهاب الاسلامي» عمل فيه لاثبات حقيقة يتخيلها عن ان الاسلام دين عنف وقتل. وتصيَّد آيات من القرآن الكريم التي تحثُّ المسلم على القتال في الحرب (وليس على القتل) وفصلها عن نَسَقِها البياني ولم يضعها في سياقها التاريخي، واستخلص استنتاجه المغرض بهذا الخلط غير العلمي وغير الموضوعي.

ومن هذين المثالين ـ وامثلة اخرى كثيرة ـ يتضح ان ثقافة مكافحة الارهاب تقع احيانا في الخلط والالتباس ضحية لخلفيات سياسية او استعمارية او عنصرية. وهي ثقافة يجب التصدي لها بالرد عليها علميا واسقاطها فكريا وجدليا. وهذا مجال لا بد من اختراقه من لدن المفكرين العرب والمسلمين، لتظل ثقافة مكافحة الارهاب سليمة نقية لا تشويش فيها مؤدية هدفها الحضاري الذي هو غزو الفكر الارهابي المتحجر وعزل الارهابيين في خانة المنبوذين.