تنظيف الجوار في الطريق إلى بن لادن!

TT

ما زالت الصور المطلة من اميركا يوم 11 سبتمبر (ايلول) تبدو وكأنها فيلم سينمائي، طائرات تصطدم بالمباني، وألسنة النيران تهب من ناطحات السحاب، والعاملون في المكاتب يلقون بأنفسهم من النوافذ على ارتفاع 100 طابق الى موت محتوم، ثم تتهاوى المباني ذاتها لتصبح كومة من الركام. لكن في افلام السينما لا يموت اكثر من 6000 من المواطنين الابرياء، و300 من رجال الاطفال والشرطة لا يلاقون حتفهم وهم يحاولون انقاذ اناس آخرين، ولا يكون هناك عشرات الآلاف من الايتام والارامل والعائلات المفجوعة والاصدقاء المحزونين.

وما زال الاميركيون يحاولون استيعاب الاحداث السوريالية التي لطخت ذلك اليوم الخريفي المشرق في نيويورك وواشنطن. لقد نُكست الاعلام الاميركية في كل مكان، ومنذ حرب فيتنام التي مزقت اميركا قبل 30 سنة، قطعا لم تجد الولايات المتحدة نفسها متحدة كما هي متحدة الآن. وهناك شعور واحد يوحد الاميركيين هو الغموض حول ما يجب فعله ردا على احداث 11 سبتمبر. فنحن لا نواجه قوة عسكرية اخرى، او حتى حكومة اخرى. لقد تحدث محللو الدفاع منذ اكثر من عقد من الزمان عن «الحرب غير المتطابقة»، لكن من كان يتصور انها ستكون بهذا الشكل؟ وتشير اصابع الاتهام الى اسامة بن لادن على انه تقريبا شريك مؤكد في الجريمة، لكنه لم يترك وراءه عنوانا يمكن الرجوع اليه. اما الاميركيون المعتادون على حروب ضد دول اخرى، او على اعمال عنف باسم جماعات لها مطالب واضحة، فان هذه الاحداث تواجههم بنوع جديد من المسائل التي ليس لها حل واضح. اما الاكثر وضوحا فهو ان الانماط القديمة من الحرب لم تعد ناجحة. وسوف يقع معظم العمل ضد شبكات مثل شبكة بن لادن على عاتق ضباط المخابرات (من الولايات المتحدة والخارج)، وعلى الخبراء الماليين، وخبراء الاتصالات، ورجال الامن، وهذا العمل سوف يستغرق وقتا طويلا.

اما في المدى القريب، فانه سيكون هناك بالتأكيد نوع من الرد العسكري الاميركي، وكما هو متوقع في مثل هذا المناخ، هناك انقسام بين صانعي السياسة الاميركية. ذلك ان هناك اعتقادا بان جانبا من القيادة المدنية في البنتاغون يفضل نهجا عريضا يقضي بعدم الاكتفاء بمهاجمة بن لادن، بل ايضا شركائه المفترضين او حتى المحتملين. ويشاع ان كثيرين يحبذون استغلال الاحداث ليس فقط لازاحة حكومة «طالبان» من افغانستان، بل ايضا لوضع نهاية لنظام صدام حسين في العراق، ويجري همس ايضا حول توجيه ضربات الى اهداف في السودان واليمن وايران.

ومما لا شك فيه ان القيادة المدنية في البنتاغون تواجه مقاومة من العسكريين الذين سعوا طويلا لاجتناب الدخول في التزامات مفتوحة، او تحميلهم لمهام سياسية. فالاوامر التي يفضلها العسكريون هي من نوع «قم باحتلال هذه المساحة من الارض لهذه المدة من الوقت، ثم اخرج». اما استعمال ادوات عسكرية في محاولات اطاحة الانظمة وحتى اتمام المهمة، فانه يبدو شبيها بالمهام العسكرية الاميركية في الصومال وفيتنام، وكلاهما انتهى قبل تحقيق اهدافه المرسومة. ويُعتقد ان كبار المسؤولين في وزارة الخارجية يفضلون تحديد الاهداف بصورة ضيقة. هناك سببان لهذا التوجه: اولهما، ان الاهداف المتواضعة يمكن ادارتها والتحكم بها بصورة افضل. وثانيهما، وهو السبب الاهم، ان الرد الفعال ضد شبكة بن لادن يقتضي حتما وجود قدر كبير من التعاون الدولي، حيث من الاسهل الحفاظ على تحالف واسع على اساس مجموعة من الاهداف الضيقة. اما وكالات الاستخبارات، من جهتها، فانها تمتنع عن التوصية بسياسات معينة، مكتفية بدلا من ذلك بتقديم المعلومات والتحليلات الداعمة لعملية اتخاذ القرارات.

وليس مفاجئا على الاطلاق في النظام الاميركي ان تكون لفروع مختلفة من الحكومة توجهات مختلفة تماما ازاء المشكلة ذاتها. والحقيقة ان جهاز «مجلس الامن القومي» بكامله اقيم من اجل التوفيق بين المواقف المختلفة للدوائر الحكومية المختلفة. ويبقى غير واضح تماما اين يقف الرئيس بوش ونائبه تشيني من هذه القضايا، ومن المرجح ان يبقى موقفهما كذلك في الوقت الحاضر.

ومن الطرق الممكنة للتوفيق بين هذه الآراء المختلفة، الانطلاق من اهداف ضيقة وتحالف واسع، ثم انتظار ما يمكن ان يتحقق. فاذا كانت النتيجة مرضية، فانه يمكن متابعة السير في هذا الطريق، اما اذا تعذر قيام التحالف او ثبت عدم فاعليته، فانه يمكن عندئذ تضييق التحالف وتوسيع الاهداف ومتابعتها بشكل اشد. والشيء اللافت اكثر من غيره في عملية التوفيق بين آراء الدوائر الحكومية المختلفة، هو مقدار المعلومات التي تصب في هذه العملية، ذلك ان كل مسؤول رئيس من صانعي القرارات يقود جهازا بيروقراطيا يضم عدة آلاف من الخبراء، وفي النهاية يتوجب عليهم التفاهم حول وضع خطوط رئيسية للسياسة المتفق عليها على صفحة واحدة من الورق، انهم بحاجة الى اتقان التفاصيل، والرؤية الاستراتيجية، والقدرة على المساومة بين بعضهم البعض.

ومن الايجابيات المهمة في هذا الصدد ان معظم الاشخاص المعنيين يتمتعون بسنوات طويلة من الخبرة. فتشيني، نائب الرئيس، كان وزيرا للدفاع. اما وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد، فكان رئيسا لهيئة الموظفين في البيت الابيض. ووزير الخارجية كولن باول كان رئيسا للاركان. وهم لديهم جميعا فهم دقيق لطريقة ادارة الدفق الهائل من التقارير الوافدة الى البيت الابيض، وجميعهم من قدامى المحاربين في المعارك السياسية للبيت الابيض. كما ان تشيني وباول من قدامى المحاربين في حرب الخليج، ولديهما تقدير عميق لمهمة بناء التحالف الدولي.

اما الذين هم اقل تجربة وغير مجربين، فمن بينهم الرئيس بوش نفسه، وكوندوليزا رايس كاتمة اسراره ومستشارته للامن القومي، لكن رايس عملت جاهدة في الاشهر الستة الماضية لفرض هيبتها، وهي بالتأكيد تتمتع بثقة الرئيس، وهو بدوره يحظى بولائها، وهما يشكلان معا الفريق الحاسم في النتيجة، ويبدو انهما الى الآن لم يتخذا جانب اي فريق في النقاش السياسي الدائر.

ومع ان الرئيس لم يكن ذا حضور علني واضح في الاسابيع الاخيرة، كما كان يحب بعضهم، فانه اتخذ دورا شخصيا قويا في الدفاع عن العرب الاميركيين والجاليات المسلمة. فبعد اقل من اسبوع واحد على الكارثة، زار الجامع الرئيسي في واشنطن حيث وصف الاسلام بانه دين السلام واستشهد بآيات قرآنية. وقال ايضا: «ان النساء المحجبات في هذه البلاد يجب ان يشعرن بالارتياح عند خروجهن من منازلهن. ان الامهات اللواتي يلبسن الغطاء يجب عدم مضايقتهن في اميركا. هذه ليست اميركا التي اعرفها، هذه ليست اميركا التي اقدرها.. ذلك (المضايقات) ما كان يجب ان يحصل، ولن يحصل، في اميركا». كذلك ادلى بوش بتعليقات قوية مماثلة في حديثه الى الدورة المشتركة لمجلس الكونغرس يوم 20 سبتمبر فذهب بذلك الى ابعد مما ذهب اليه اي رئيس اميركي آخر في احتضان الجاليات العربية والاسلامية في الولايات المتحدة.

ومما ساعد بوش في ذلك بالتأكيد، الشجب الواسع لاحداث 11سبتمبر في العالم العربي والاسلامي من طهران الى رام الله ـ وهي كلها ليست اماكن تتوقع ان تسمع منها الولايات المتحدة بالضرورة كلمات دعم. والواقع ان رغبة كثيرين في العالم في ادانة تلك الاعمال بالرغم من شكوكهم حول الشكل الاوسع للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط هي عامل حاسم في اقامة سياسة اميركية واسعة الدعم وضيقة التركيز. ذلك انه من دون هذا الدعم، فان الولايات المتحدة تصبح ميالة الى اخذ المسألة على عاتقها وحدها، لتقوم «بتنظيف الجوار» وهي في طريقها الى العمل ضد بن لادن، وهذا نوع من السياسة لا يرتاح اليه الكثيرون في الشرق الاوسط.

ان من المستحيل التكهن بمجرى السياسة حتى لمدة اسبوعين في المستقبل. فهناك عوامل كثيرة تتداخل مع بعضها في وقت واحد، وهناك الكثير من المتغيرات، واحتمال وقوع احداث غير منتظرة احتمال كبير. لكن الكثير سوف يحدث في سياق السنة المقبلة، وبعضه قد يبدو مستحيل التصديق... حتى في افلام السينما!

* مدير «برنامج الابحاث والدراسات» في «معهد الولايات المتحدة للسلام» في واشنطن ـ بالاتفاق مع «الديبلوماسي» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»