هل نحن نحب مصر ونكره المصريين؟

TT

حادثتان في الأسبوع الماضي كبّلتا عقلي بأصفاد من الحزن والتعاسة ومنعتاني حتى اللحظات الأخيرة من كتابة مقالي الأسبوعي. الحادثة الأولى هي انهيار مصنع ملابس في الإسكندرية على العاملين فيه من الشبان والشابات، ثم متابعة الكاميرات للجهود المبذولة لإخراج جثث الموتى من تحت الأنقاض. لم تكن هناك جهود لإنقاذ الأحياء، فلسنا مدربين على هذه العملية، ما نجيده فقط هو الاستعانة باللوادر لإخراج الجثث، بما في ذلك بالطبع قتل بعض الأحياء. من السهل بالطبع أن ينبري أحد المسؤولين ليقول لي بحدة: من قال إننا لسنا مدربين على ذلك.. إن المؤسسة العامة لإنقاذ الناس من تحت الأنقاض، كل أفرادها تم تدريبهم في أميركا وأستراليا وإنجلترا وحصلوا على جوائز كبيرة.. من سوء حظ ضحايا المصنع أنهم ماتوا جميعا في لحظات.

أسرع ناس في مصر في الانتقال إلى أماكن الكوارث، هي المحطات الفضائية المصرية. شاهدنا اللوادر وهي تعمل، قال أحد الشبان: «كان بيتكلم معانا لحد الساعة حداشر إلا ربع بالليل».

تفهم من كلامه أن شخصا ما كان حيا بين الأنقاض، ولكن من الواضح أن أحدا لم يفكر في إنقاذه أو إنقاذ غيره، تتناثر التعليقات، تقول شابة: «كنا نعرف أن مبنى المصنع سينهار في أي لحظة، غير أننا في حاجة إلى العمل.. حانعيش ازاي؟».

المصنع طلع له عدة قرارات إزالة، ولكن أصحاب المصنع كانوا يستأنفون ويستشكلون أمام المحاكم لتعطيل هذه القرارات.. هذا بعد مهم للغاية من أبعاد الكارثة، وكل كارثة، المصريون الآن أو معظمهم يلجأون للقانون لتعطيل القانون ومنع العدل عن بعضهم البعض، من الصعب أن تجد مصريا ليست هناك قضية أو عدة قضايا مرفوعة ضده، أو رفعها هو ضد الآخرين أو ضد الحكومة. هناك ملايين القضايا رفعها المصريون ضد الحكومة، وربما أيضا هناك ملايين القضايا التي رفعتها الحكومة ضدهم. رفع القضايا أمام المحاكم هو أحدث الاختراعات التي توصل إليها المصريون ليضيعوا وقتهم ويقصفوا بها أعمارهم. أريدك أن تفكر في آلاف أطنان الأوراق المستخدمة في هذه القضايا، هي مصنوعة من الشجر، عما قريب سنتمكن من إفناء غابات العالم.

أعود للكارثة.. كل دقيقة يرتفع عدد الجثث التي تم (إنقاذها) إلى أن يصل عددها إلى 26 شخصا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الحادث الثاني في القاهرة، هو لم يحدث بعد، غير أنه من الممكن أن يحدث بينما تقرأ أنت هذا المقال، عمارة بها 35 أسرة برجالها ونسائها وأطفالها، عرضة للانهيار، ليس بسبب الزلازل والانهيارات الأرضية أو القدم، بل بسبب المياه مجهولة المصدر، نعم ما قرأته سيادتك صحيح، مياه مجهولة المصدر منذ ثلاثة أعوام تملأ الجراج تحت العمارة، جاء السكان بمواتير عملاقة لكسح هذه المياه مجهولة المصدر، ولكن كمية المياه لا تتناقص، وتسرع كاميرات الفضائيات إلى هناك وتستعرض المشهد في لقطات.. مياه مجهولة المصدر؟ في شارع من شوارع القاهرة؟

بدأت تعليقات الناس تكشف عن قدر كبير من الرعب والتعاسة.. «رحنا رئاسة الحي وقابلنا الناس هناك كذا مرة.. وبعتوا ناس عاينت الجراج، وحللوا الميه.. لقوها ميه عذبة، يعني مش مية مجاري.. مياه شرب، بدليل إنهم لقوا فيها كلور، غير أنهم عجزوا عن معرفة مصدرها.. إلحقونا يا ناس 35 أسرة مهددة بالموت تحت أنقاض هذه العمارة».

استقر عقلي عند جملة واحدة، وهي: «مجهولة المصدر» بدأت في استعراض ما أعرفه من مصادر وأستبعدها واحدا بعد الآخر.. هل هو نهر جوفي على بعد أعماق سحيقة حفره السلطان قلاوون في العصور الوسطى من أجل النزهة والترويح عن النفس بعيدا عن نهر النيل المعرض لكل الأنظار؟ من المستحيل أن يكون الأمر كذلك، لأن المماليك لم يكتشفوا غاز الكلور وكانت لهم طرق أخرى في تنقية المياه أو ربما كانوا يشربونها بجراثيمها وبكترياتها. هل هي مياه جوفية أقدم من ذلك، أقصد هل هي تابعة للعصر الفرعوني؟ هل شق كهنة آمون قناة سرية تحت الأرض للهرب من مطاردة الملك أخناتون لهم؟ لو كان الأمر كذلك لاكتشف زاهي حواس رئيس هيئة الآثار المصرية مصدر هذه المياه في لحظات، وأعلن على العالم كله هذا الكشف العظيم. أم أن هذه المياه مصدرها نهر شقه العرب بعد الفتح العربي بهدف الحصول أصلا على بترول؟

فليكن السبب والأصل ما يكون، المهم أن هناك واقعا ماثلا أمام أعيننا وهو أن هناك مياها مجهولة المصدر تهدد 35 أسرة بالموت، وأننا أيضا فشلنا في التوصل إلى مصدرها، ولكن هل نعيش وحدنا على هذا الكوكب؟ هناك خبراء أجانب نستعين بهم في كل المجالات، خبراء في الصناعة والطب ومدربون لكرة القدم وحكام للمباريات، لماذا لا نستعين بهم لمعرفة مصدر هذه المياه؟ هل نعتبر عمليات الإنقاذ من هذا النوع تدخلا أجنبيا في شؤوننا السياسية؟.. وماذا عن حياة البشر الذين نعجز عن حمايتهم؟

لقد استعنا بخبراء أجانب استقدمناهم في ساعات إلى شرم الشيخ لدراسة أسباب هجوم القروش المفترسة على السياح، فلماذا لا نستقدم خبراء أجانب في المياه الجوفية للكشف عن هذا السر؟ من المسلّم به أننا نحب مصر، ولكن هل نحن حقا نحب المصريين؟ هذا هو السؤال الذي لم يسأله هاملت لنفسه.

ثم تتوجه الكاميرا إلى رئيس الحي لتسأله عن معلوماته عن هذه الكارثة المتوقعة، فيرد ببساطة: هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا الموضوع.

يا مثبت العقل في الرأس يا رب، الرجل لا يعرف شيئا عن هذه الحكاية حتى بعد أن ذهب موظفوه إلى العمارة وحفروا حولها وحللوا مياهها، الرجل دلق جردلا من المياه الساقعة على الكاميرا وعلى المشاهدين وربما على المصريين جميعا، عندما قال إنه لا علم له بالموضوع.

هل نحن نحب كلمة مجردة اسمها مصر؟ لا أعرف شعبا يتغنى مثقفوه ومفكروه وأجهزة إعلامه ووكالات إعلاناته بمثل هذا القدر، بل وصل الأمر بالدعاية لسندوتش جديد أو نوع من البطاطس المقلية إلى أنه لذيذ مثل حبك لمصر.

هل نسينا في غمرة حبنا لمصر، أن المصريين تابعون أيضا لمصر وأنهم يستحقون قدرا من حبنا أيضا واهتمامنا؟ ألا يستحقون مسؤولا يعرف ماذا يحدث للناس في حيه؟ ألا يستحقون فرقة إنقاذ مدربة جيدا على إنقاذ الأحياء وليس انتشال جثث الموتى؟ حتى لو تطلب الأمر إرسالهم لتشيلي لتلقي تدريباتهم هناك؟ نعم، نحن نحب مصر، ولكني أطلب أن نحب المصريين أولا.