عراق ما بعد العقوبات

TT

وكأنه البارحة وليس قبل 20 عاما، صحونا صباحا فوجدنا التلفزيون الحكومي يذيع أناشيد وطنية، والمذيع يقول لنا «إن بيانا بالغ الأهمية سيذاع بعد دقائق، فنسترعي انتباهكم». هذه العبارة بالنسبة لعراقيي ذلك الزمان تعني الكثير، وغالبا ما ترتبط بحرب أو تهديد بالحرب أو الاستعداد للحرب، لم يخيب المذيع ظنا، فقد تلا بيانا صادرا عن مجلس قيادة الثورة يعلن أن الجيش العراقي دخل الكويت. كان القرار الذي دفع العراقيون ثمنا كبيرا من جرائه، فقد فتح أبواب الجحيم، ليس فقط على شكل صواريخ ذكية وطائرات ترمي بأحمالها مخربة ما كان قد أنفق عليه المليارات، ومتسببة في موت الكثير من الأبرياء، بل بفعل ما تلا إعلان «الهزيمة» من عقوبات صارمة لم يسبق لها في التاريخ مثيل، مُنع العراق بموجبها من تصدير النفط؛ وهو مصدر الدخل الوحيد لديه. كان العراقيون قد خرجوا للتو من حرب ضروس مع إيران تسببت في ضياع الكثير من الأرواح والموارد، وفي عسكرة المجتمع وتفكيك نسيجه المعنوي والأخلاقي، وجاءت حرب الخليج والعقوبات لتدمر ما تبقى. مراجعة معطيات تلك المرحلة تكشف عن حجم المعاناة؛ ارتفعت وفيات الأطفال من 56 بالألف في الثمانينات إلى 131 بالألف في التسعينات. في منتصف الثمانينات كان الدينار الواحد يعادل ثلاثة دولارات، ومع الألفية الجديدة بات الدولار الواحد يعادل 3000 دينار، كما أن متوسط مرتب الموظف الحكومي صار يعادل 3 دولارات شهريا. قضت العقوبات على ما تبقى من الطبقة الوسطى التي غالبا ما اختارت الهجرة، وتردى مستوى التعليم والصحة والكهرباء والزراعة والبنية التحتية. وفي الوقت الذي كانت فيه التسعينات بمثابة عملية تدمير منظمة وبطيئة للمجتمع العراقي وللإنسان العراقي، كان النظام يحتفل سنويا بانتصاره في «أم المعارك».

الأسبوع الماضي اتخذ مجلس الأمن قرارا تاريخيا برفع معظم العقوبات عن العراق، ورغم أن الحصار الاقتصادي قد تمت مغادرته منذ عام 2003، فإن القرار الأخير الذي رفع الحظر عن تصدير التكنولوجيا والسلاح للعراق وأنهى وضع العراق كدولة منبوذة وخاضعة للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، قيمته الرمزية كانت كبيرة جدا. كان لافتا أن الولايات المتحدة، الدولة التي قادت عملية فرض العقوبات وكانت الأكثر تشددا بشأنها إلى حد أن تقول وزيرة الخارجية السابقة، أولبرايت، إن الثمن الإنساني للعقوبات يستحق الدفع، بادرت هي، ممثلة بنائب الرئيس، إلى قيادة عملية رفع العقوبات وتعبئة بقية الأطراف لقبولها.

لقد دفع العراق ثمنا كبيرا جراء العقوبات، فبالإضافة إلى ما ذكرناه من آثار إنسانية واجتماعية، فقد بلغ مجموع التعويضات المادية التي دفعت من الخزينة العراقية ما يقارب 36 مليار دولار، وما زالت هناك الكثير من المطالبات التي بلغ بعضها حدا من السخف، كما هو حال قضية الطفل الأميركي الذي كان بين المحتجزين كدروع بشرية بعد غزو الكويت، والذي رفع دعوى مدعيا أنه متضرر نفسيا لأن صدام، وخلال زيارته لهؤلاء المحتجزين، قد وضع يده على رأس الطفل!!

الكويت ما زالت تطالب بـ22 مليار دولار كتعويضات، وهي ترفض التفاوض بشأنها حتى هذه اللحظة، وإن كان هناك أمل كبير لدى الأوساط العراقية بأن الكويتيين بصدد مراجعة موقفهم هذا ربما لأنهم يدركون أكثر من غيرهم حجم معاناة العراقيين، وقد ذاقوا بعضا منها أيام الغزو. مقولة إن غالبية العراقيين كانوا غير رافضين للغزو هي مقولة غير صحيحة؛ فغالبية العراقيين تفاجأوا بالقرار الذي كالعادة لم يأخذ أحد رأيهم فيه، بما فيهم وزير الدفاع آنذاك الذي لم يعرف بالهجوم حتى وقوعه، وكان الاستفتاء الشعبي الوحيد حول رأي العراقيين قد تم عندما أعلن «مجلس قيادة الثورة» بعد الهزيمة العسكرية قبوله الانسحاب. يومها بدأ الكثير من العراقيين يطلقون النار في الهواء تعبيرا عن ابتهاجهم بالانسحاب. وفي وقت كانت هناك أقلية بلا وازع أخلاقي قد حاولت الاستفادة ماديا من الغزو، فإن معظم العراقيين رفضوا هذه الممارسة، ومعظم المرجعيات الدينية أفتت بحرمة اغتصاب المال الكويتي في تحد جريء لسطوة النظام.

أيا كان الأمر، فقد دفع العراقيون ثمنا كبيرا لخطأ لم يرتكبوه، واليوم هو أوان الحديث عن ما الذي سيقدمه العالم للعراقيين. ليست لدى العراق مطالبات مالية، لكنه بحاجة إلى زمن من السلام لكي يداوي جراحه العميقة، ويبدأ بمخاطبة العالم بلغة غير لغة البيانات العسكرية والتهديد والوعيد، ثم الهزيمة والاستسلام وادعاء النصر المزيف. لقد تكاتف العالم بشكل استثنائي لتطبيق العقوبات على العراقيين، والجميع يعلمون أن الشعب العراقي كان يدفع الثمن الأكبر، وأنه كان الضحية الأكبر في الوقت نفسه. السؤال هو: هل سيتكاتف العالم بنفس القدر من التضامن لمساعدة العراقيين؟