رداء السيدة اللندنية!

TT

يحدث أن تغيب عن لندن سنوات طويلة، ثم تأتي فتجد السيدة «العاصفة الثلجية» في انتظارك، وقد نثرت رداءها القطني على مسارات الريح، حتى ليغدو المدى لوحة كالحة البياض، تزمجر على أطرافها الريح، فتخلو مقاهي الأرصفة من زبائنها في «إدجوار رود» و«كوينز واي».

يقول لك أحدهم إن هذا لم يحدث منذ عشرين عاما، ويقول آخر: لا بل خمسين سنة، ويزيدها الثالث قليلا، وسائق التاكسي اللندني العتيق يتأملك من رأسك حتى أخمص قدميك، وأنت تطلب منه إيصالك إلى نقطة لا تبعد كثيرا عن مكان وقوفك، قبل أن يغلق النافذة، ويدير ظهرا عريضا لك، ويمضي، تاركك لقسوة الرصيف، والقطن المنسل من جبة السماء.

ينسل إليك صوت فيروز من مقهى عربي أحكم إغلاق أبوابه يغني:

«سألوني الناس عنك يا حبيبي

كتبوا المكاتيب وأخذها الهوا

بيعز علي أغني يا حبيبي

ولأول مرة ما نكون سوا»

تدلف إلى داخل المقهى إلى طاولة جانبية، فيتعجل النادل في دلق السؤال:

- هل ترغب في أن تجرب طبق اليوم؟

- لا.. لا أريد طعاما.

- حسنا.. ماذا تريد أن تشرب؟

- ولا شرابا أيضا.

وعند هذا الحد يفقد النادل شيئا من لباقته، فيبدو محتدا، وهو يسألك: ماذا تريد إذن؟

- أريد شيئا من الدفء، وسأنقدك ثمنه قبل أن أغادر.

يمط النادل شفته السفلى، وهو يغادر طاولتك إلى زبون آخر ينهمك في افتراس نصف خروف مشوي، ويستعين بـ«دستة» من أكواب العصائر الملونة لتليين عبور نصف الخروف إلى داخله.

تنشغل في تلك اللحظة بالرحيل إلى مدن بعيدة، تشكلت من فتات الشمس، فغمرها الدفء والصحو والحياة، وأنت في الصورة هناك طفل على سطح داركم العتيق، تستقبل السماء صدرا بصدر، وتنظم من شوارد النجوم مسبحة تكر حباتها بين أناملك حتى تنام.

[email protected]