متى يحين الوقت؟

TT

تحلّق الأطفال حول ما كان حتى قبل لحظات ملاذَهم الآمن، وحاضنَ ذكرياتهم، وموقعَ سعادتهم، وصلة تواصلهم مع الآباء والأجداد، ليروا بأعينهم البريئة كل لبنة من لبنات منزلهم التي جلبت بعرق الأهل، تتحول إلى ركام، والرأس المعدني المدبب البارز من البلدوزر الأميركي الصنع ينتقل بهمجيته المدمرة من حائط منزلهم إلى آخر، وهو يهدم، ويحطم، ويدمر، إلى أن ترنح سقف منزلهم، وتابع الجندي الإسرائيلي الذي يقود البلدوزر ضرباته الوحشية بالبلدوزر، حتى سقط السقف فوق الركام، فصرخ الأطفال باكين من هذه الوحشية المفرطة «وين نروح، وين ننام»، وكأنهم كانوا يأملون ألا تصل الأمور إلى هنا، وأن يتمكنوا من استعادة وترميم منزلهم لو لم يسقط هذا السقف، وركضوا يحاولون إنقاذ دفاترهم، وكتبهم، وألعابهم، والدموع الغزيرة تسقي حطام منزلهم المنكوب بالوحشية الإسرائيلية المعهودة النازلة قتلا، وتعذيبا، وتدميرا بالمدنيين الفلسطينيين منذ أكثر من ستين عاما بدعم من الإدارة الأميركية، وبتمويل من الكونغرس. وكان هؤلاء الأطفال يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويسكنون مع أهلهم في مدينة اللد الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948، ولكن المشكلة هي أنهم عرب يعيشون في كيان يحكمه صهاينة ينفذون تطهيرا عرقيا ضدهم، مدعوما من الحكومات الأوروبية والأميركية التي تصر على حرمانهم من الحرية، وحقوق الإنسان، والعدالة، بإصرارها على منع قيام دولة فلسطينية مستقلة بذرائع مختلفة.

لقد بدأت حكومة نتنياهو، بعد أن تأكدت من استسلام إدارة أوباما، وأوروبا، وصمتها عن جرائمها، حملة هدم المنازل لعرب فلسطين المحتلة منذ عام 1948، أسوة بعمليات هدم آلاف المنازل الفلسطينية في القدس والضفة الغربية.

هؤلاء الأطفال الفلسطينيون، سوف يعيشون أعياد الميلاد ورأس السنة في العراء لاجئين على أرضهم، كما يعيش مواطنوهم في معسكرات اللاجئين منذ عام 1948، ومثل أقرانهم الأطفال المعتقلين في سجون إسرائيل السرية والعلنية، والذين يتعرضون على أيدي جلادي المخابرات اليهودية لأبشع أنواع القهر والتعذيب، التي يعشق الإسرائيليون استنباط المزيد من وحشيتها، بينما يحتفل الغربيون بأعياد الميلاد، وهم مغمضو الأعين عن مشاهد الهدم الإسرائيلي لمنازل المدنيين الفلسطينيين.

ويستقبل البيت الأبيض، أطفالا يقدم لهم اللعب والهدايا، دون التوقف ولو للحظة للسؤال: لماذا يتعرض الأطفال الفلسطينيون لهدم منازلهم ببلدوزرات أميركية يتبرع بها الكونغرس لآلة الهدم الإسرائيلية؟ لماذا يتفرج العالم على آلة القهر والاحتلال الإسرائيلية وهي تسرق طفولة الفلسطينيين، وابتسامتهم، وتملأ عيونهم دموعا، وقلوبهم حسرة على فراش دافئ، وشراب ساخن، ومنزل يحويهم مع ذويهم وأحبائهم؟ وحتى أولئك الأطفال الفلسطينيون الذين يغطون في نوم عميق، بانتظار صباح مقبل، وذهاب إلى المدرسة، وعودة إلى حضن الأم، تقتلعهم آلة القمع الإسرائيلية من فراشهم في الليل، وتأخذهم إلى السجون، وتمارس ضدهم أقسى أنوع الضرب والعنف، فترعب طفولتهم البريئة، بينما لا يسمح للأهل مرافقة فلذات أكبادهم فيتوزع الرعب بين طفل باق في المكان، يملأ ضمير الوالد والوالدة شعور العجز عن حماية أبنائهم، ورعب مصاحب للطفل المعتقل الذي لا يعلم أين ينظر بعينيه الباكيتين، وسط جنود يهود مدججين بالحقد، والكراهية، والعنف، وكل دهشة العالم ترتسم على وجه بريء لا يفهم لماذا استحق هذا العنف اليهودي المكبوت منذ قرون، ليتساءل هل لأنه خلق فلسطينيا، أصبح يستحق كل هذا العذاب والألم (انظر تقرير منظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية، القدس 13/12/ 2010/ أ.ف.ب)، التي تروي بعضا من معاناة أطفال فلسطينيين في البيت والمعتقل، حيث تتحدث عن أخذ أطفال في عمر ثماني سنوات من فراشهم إلى المعتقل بتهمة إلقاء حجارة على الدبابات الإسرائيلية!!

على كل المنشغلين اليوم بتزيين أشجار عيد الميلاد في منازلهم، خاصة في البيت الأبيض، وفي الولايات المتحدة، وأوروبا خصيصا، والذين يبتاعون الهدايا لوضعها تحت الشجرة لأطفالهم، أن يتذكروا الطفل الفلسطيني المعتقل يوسف الزق، فهو أصغر سجين في العالم (عمره سنتان)، والطفلة هديل أبو تركي، وعبيدة عصيدة، وأمجد الخطيب، وأحمد صيام، الذين اعتقلوا وعمرهم لا يتجاوز 12 عاما، وحوكموا أيضا بتهمة إلقاء حجر على دبابة إسرائيلية!! وتطول قائمة الرعب الذي تنزله حكومة نتنياهو المعروفة بتطرفها في ممارسة أشد أساليب التعذيب الوحشية بأطفال فلسطين. والسؤال هو: هل يندرج هؤلاء الأطفال في قائمة الأطفال التي يدافع الغرب عن حقها في أن تعيش طفولتها حرة وتلعب، وتهنأ، وتتعلم، وتنام في فراشها آمنة، وتسكن في بيت غير مهدد بالهدم في أي لحظة؟ أم أن هناك قانونا أميركيا لكل أطفال العالم يصون طفولتهم، وحقوقهم، وحريتهم، وقانونا آخر لأطفال فلسطين يقول لهم: اذهبوا فأنتم مكتوب عليكم القهر على أيدي اليهود!

حين يلجأ مسيحيو الغرب في عيد الميلاد إلى منازلهم الدافئة لتقيهم برد الثلوج، هل يتذكرون ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون قهرا، وهم محرومون من الحرية، والعدالة، بسبب تواطؤ حكوماتهم مع الجرائم الإسرائيلية التي وصلت حد التطهير العرقي العلني، المتمثل بهدم منازل الفلسطينيين، وبناء المزيد من المستوطنات لليهود الآتين من أقاصي الأرض؟ هل سيتذكر المسيحيون، وهم يحتفلون بأعياد ميلاد السيد المسيح (ع)، عذابات أكثر من أحد عشر ألف أسير من رجال، ونساء، وأطفال فلسطينيين، لا ذنب لهم سوى أنهم فلسطينيون تحت الاحتلال؟

ليس التجاهل الغربي لهذه المعاناة الإنسانية، نتيجة للجهل بها، بل هو نتيجة للتجاهل السياسي المتعمد للزعماء الأميركيين والأوروبيين الناجم عن دعمهم المطلق لحكومة نتنياهو، وبسبب سياسة الممالأة التي يتبعونها مع جرائم إسرائيل. فبعد أن تخلت الولايات المتحدة عن مطالبة إسرائيل بتجميد الاستيطان، عاد مبعوث «السلام» إلى فلسطين «لتقليص» الهوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أي، وبما أن الضغط الأميركي، قد أزيح تماما عن الاحتلال الإسرائيلي، فإنه سينزل برمته على ضحية هذا الاحتلال، أي ان «التقريب بين الطرفين» سيكون فقط من خلال الضغط على الطرف الفلسطيني الأعزل، الذي ليس له المال اليهودي، ولا نفوذ هذا المال على الكونغرس والإعلام والإدارة، كي يتخلى عن حقوق شعبه في الحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان. وفي غمرة هذه المعاناة الإنسانية الناجمة عن سياسة التطهير العرقي، يجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، ويصدرون بيانا «يهددون» إسرائيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية «حين يحين الوقت». والسؤال هو: متى «يحين هذا الوقت»، والفلسطينيون محرومون من الحرية منذ أكثر من ستة عقود! وهل يشعر هؤلاء الوزراء بشعور شعب منكل به، محروم من حقوق الإنسان، والحرية، وأطفال يكبرون، وهم محرومون من أبسط حقوق الأطفال؟ هل يمكن أن نقول لهؤلاء الوزراء سوف لن تعودوا إلى منازلكم، ولن تروا أطفالكم، وتحتفلوا معهم إلا «حين يحين الوقت»؟

في أجواء أعياد الميلاد، أولا يتوجب على من يستذكر معاناة سيدنا المسيح عليه السلام، أن يسجل موقفا ضد هذا الظلم الإسرائيلي الفادح، الواقع على المدنيين الفلسطينيين، الذين سكنوا فلسطين وعمروها منذ ما قبل أيام السيد المسيح.

تاريخ عذابات السيد المسيح، يعيد نفسه اليوم هناك. فالمحتفلون بالأعياد في أوروبا والبيت الأبيض، يدعمون الظلم الإسرائيلي ويتنكرون للمظلوم الفلسطيني، ما معنى الاحتفال بأعياد الميلاد إذا كان إخوة لنا في الإنسانية يسكنون تلك الديار المقدسة التي اختارها الرب مهدا للمسيح، يتعرضون لمعاناة يندى لها جبين الإنسانية، دون أن يتوقف الغرب «المتحضر» و«المسيحي» في أعياد ميلاده، ليتذكر اتخاذ موقف ضد الوحشية الإسرائيلية، ولصالح العدالة، والحرية، وحقوق الإنسان.

ليتذكر كل إنسان متحضر، فعلا وحقا، وهو يذهب إلى منزله لينعم بالدفء، والمحبة، ووجبة ديك الحبش الشهية.... ليتذكر أطفال فلسطين الذين تدمر حكومة إسرائيل منازلهم في اللد، وحي سلوان، وحي البستان، وقرية أبو العجاج، وحي العيسوية... ليتذكر الأطفال المعتقلين في سجون نتنياهو الرهيبة، ليتذكروا الأطفال المهدومة بيوتهم في فلسطين، الذين يسألون العالم «المتحضر»: أين نذهب، أين ننام يا ماما؟

هل «الوقت حان» الذي أجله الزعماء الأوروبيون والأميركيون أكثر من ستين عاما كي يقدم العالم «المتحضر» جوابا عن هذا السؤال؟ أم أن مسؤولي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يزالون ينتظرون نجاح التطهير العرقي الإسرائيلي بإبادة آخر مدني فلسطيني، فلا يكون هناك حاجة للاعتراف بدولة فلسطينية، التي يؤجلون الآن الاعتراف بها لأنه «لم يحن الوقت بعد»!!