الاقتصاديات العربية ومرحلة ما بعد الأزمة

TT

لقد شهدت مرحلة ما بعد الأزمة المالية تغيرات اقتصادية هيكلية على الساحة المحلية والإقليمية والعالمية. فلقد اقتنع الجميع بأنه ليس هناك بديل للنظام الرأسمالي، كما أن الدولار سيبقى عملة التداول والاحتياط الرئيسية، وسيشهد الاقتصاد العالمي معدلات نمو وتضخم أقل مما كانت عليه قبل الأزمة، كما أن أسعار الفائدة على العملات الرئيسية ستبقى متدنية ومعدلات البطالة مرتفعة نسبيا. غير أن اقتصاد السوق سيشهد عهدا جديدا يتسم برقابة أكثر فعالية وتشريعات مالية صارمة وتشدد أكثر في منح الائتمان. ولقد فقد المتعاملون الثقة بقدرة السوق على مراقبة نفسه بنفسه بنفسه (the light touch approach to regulation)، ولا ينظر الآن إلى التشريعات والقوانين على أنها تعيق من تطور الأسواق، إنما أصبحت شرطا أساسيا لأداء اقتصادي متوازن. هذه هي بعض ظواهر الوضع الطبيعي الجديد للاقتصاد العالمي أو ما يسمى (New Normal)، وهناك عدة عناوين رئيسية لهذا الوضع الجديد سنركز هنا على أربعة منها نظرا لأهميتها في هذه المرحلة.

أولا، هناك تحول في القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق ففي التسعينات كانت الاقتصادات المتقدمة تشكل نحو 70% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، أما اليوم فحصتها تراجعت إلى نحو 50% في الوقت الذي ارتفعت فيه حصة الدول الناشئة من 10% في التسعينات إلى 25% حاليا. الرابحون من هذا التحول هم أصحاب السيولة النقدية أو الموارد الطبيعية أو الذين لديهم القدرة على الإنتاج بأسعار تنافسية دون الإسراف في الاستهلاك خاصة الممول عن طريق القروض. فالدول الناشئة مثل الصين والهند، والبرازيل، وكوريا الجنوبية، وتركيا، وماليزيا، وجنوب أفريقيا وغيرها يتوقع أن تحقق معدلات نمو مرتفعة للأعوام القادمة ابتداء من 6.5% في المعدل هذا العام مقارنة مع نمو لا يزيد على 1% بمنطقة اليورو واليابان و2.5% لأميركا، فالدول النامية ستكون هي قاطرة النمو للاقتصاد العالمي، كما أن دخل الفرد لهذه الدول يتوقع له أن يرتفع خلال السنوات القادمة بمعدلات تصل إلى أكثر من خمسة أضعاف مثيلاتها في الدول المتقدمة.

هناك أيضا تفاقم في المخاطر السيادية لعدد من الدول المتقدمة خاصة في أوروبا وتحسن في مخاطر الدول النامية، وكل هذا سينعكس على تكلفة الاقتراض لهذه الدول وأسعار صرف عملاتها. إذ سيتقلص الفرق بين العائد على السندات التي تصدرها الدول النامية مقارنة مع مثيلاتها للدول المتقدمة، ويتوقع أن تحافظ أسعار صرف العملات الرئيسية على معدلات تداول ضمن هامش محدد (1.20 - 1.40 للدولار مقابل اليورو) و(80 إلى 90 للين مقابل الدولار)، في حين ستشهد أسعار صرف عملات العديد من الدول الناشئة ارتفاعا تدريجيا مقابل العملات الرئيسية الأخرى ليشكل ذلك أحد التغيرات الهيكلية المستجدة في مرحلة ما بعد الأزمة. وحتى يتم فك ارتباط العديد من هذه العملات، خاصة العملة الصينية والكورية بالدولار، سيبقى الطلب على الذهب مرتفعا والذي أصبح ينظر إليه كعملة تشبيهية للاقتصاديات الناشئة ومؤشر قيادي لأسعار صرف عملاتها، وقد يكون ذلك أحد أسباب الارتفاع المتواصل في أسعار الذهب في وقت لا يشهد فيه الاقتصاد العالمي أي ضغوطات تضخمية أو حروب مقلقة تجعل من الذهب الملاذ الآمن للاستثمار، كما أن ارتفاع الذهب جاء خلال فترات زمنية شهدت صعودا وهبوطا في أسعار صرف الدولار واليورو على السواء.

ثانيا، إن الطلب العالمي على النفط سيواصل نموه خلال السنوات العشر القادمة، وتشير الدراسات إلى أنه بحلول عام 2020 ستستأثر القارة الآسيوية على نسبة 60% من هذا النمو. ويتوقع أن يرتفع عدد السيارات في العالم بنسبة 50% خلال العشر سنوات القادمة ليصل إلى 1200 مليون سيارة مقارنة مع 800 مليون سيارة حاليا. كما أن عدد سكان العالم سيزداد خلال هذه الفترة بنحو مليار نسمة إضافة إلى تحقيق المزيد من البشر لمستويات معيشة أفضل. والنفط الذي تراوح سعره هذه السنة بين 75 - 90 دولارا للبرميل يتوقع أن يحافظ على قوته مدعوما بتنامي الطلب في أسواق الدول الناشئة. من هنا صح القول بأن الأزمة المالية الحالية ليست أزمة «عالمية» بقدر ما هي أزمة اقتصادات العالم المتقدم.

إن تنامي اعتماد دول المنطقة العربية على الإيرادات النفطية سنة بعد سنة سيبقيها رهينة للإنفاق العام ولاقتصاد النفط. وبعد أن حققت هذه الدول فائضا في موازينها العامة عندما كان سعر برميل النفط أقل من 30 دولارا، عاد بعضها ليسجل عجزا العام الماضي مع أن سعر برميل النفط ارتفع إلى نحو 62 دولارا في المعدل. كما أن الدول العربية غير المنتجة للنفط أصبحت هي الأخرى معتمدة على تدفقات رؤوس الأموال من الدول الخليجية وعلى تحويلات العاملين من أبنائها في هذه الدول والتي وصلت العام الماضي على سبيل المثال إلى نحو 7.7 بليون دولار لمصر و3.8 بليون دولار للأردن.

ثالثا، ستكون الرقابة الفعالة والقدرة على تجنب الأزمات قبل حدوثها من أهم مظاهر المرحلة المقبلة. فبالإضافة إلى السياسة النقدية والرقابة على المصارف، يتوقع أن نرى توسعا في مهام البنوك المركزية ليشمل الإشراف على كافة نشاطات الإقراض بغض النظر عمن يقوم بهذا النشاط، سواء بنوك، أو شركات وساطة، أو صناديق استثمار، أو مؤسسات تمويل عقارية أو تمويل تأجيري وغيرها، والتنسيق الكامل في هذا المجال مع هيئات أسواق رأس المال.

الهدف هو تمكين الهيئات الإشرافية على إدارة المخاطر النظامية (Systemics Risk) من الحفاظ على الاستقرار المالي في أسعار الأصول، حيث إن معظم الفقاعات عقارات أو أسهم أو سلع أو غيرها تنشأ بسبب المضاربة والطلب المكثف الناتج عن زيادة حجم الائتمان المقدم لشراء هذه الأصول. فالإدارة السليمة لهذا الائتمان ووضع ضوابط واضحة ومنظمة له يساعد على تنفيس الفقاعات قبل أن تنفجر.

رابعا، لقد أظهرت الأزمة مدى ارتباط أسواق أسهم دول المنطقة بالأسواق والتطورات العالمية، ويتوقع لهذا الارتباط أن يتعمق أكثر مستقبلا. ولقد لاحظنا مؤخرا كيف أن موجات الارتفاع أو الهبوط تبدأ في الأسواق المتقدمة وتنتقل تباعا بين أميركا وأوروبا وآسيا وصولا إلى منطقتنا. فالتحركات في أسعار الأسهم المحلية، خاصة الخليجية منها، أصبحت تعكس بشكل متزايد حركة الأسواق الخارجية، بما فيها أسواق أسهم الدول النامية. وكلما زاد حجم الاستثمار المؤسسي المحلي أو الأجنبي في أسواقنا المالية، زادت نسبة الترابط هذه. ولقد أخذ المساهمون يتابعون أداء الأسهم العالمية كمؤشر قيادي للأوضاع الاقتصادية العالمية وما لذلك من تأثير على أسعار النفط وبناء على ذلك يتعاملون مع أسواق أسهم دول المنطقة، متجاهلين في كثير من الحالات المعطيات الخاصة بأداء أسهم الشركات المدرجة محليا. لقد أصبح واضحا أن القطاع العام سيلعب دورا متزايدا على الساحة الاقتصادية العالمية والمحلية. هناك عودة دراماتيكية للحكومات والتي أصبح مطلوبا منها الآن أن تكون المراقب والضامن والمقرض والمالك للشركات التي تأثرت سلبيا بالأزمة. والتحدي يكمن في كيفية إبقاء القطاع الخاص في دفة القيادة، مع إعطاء القطاع العام دورا أكبر وأكثر فعالية في الإشراف والتنظيم والمراقبة، وبهذا نستطيع الحفاظ على المنجزات التي تحققت خلال العشرين سنة الماضية في منطقتنا من انفتاح، وزيادة المنافسة وكفاءة التسعير، واتباع نظام الحكومة الرشيدة للشركات ضمن غيرها من الإنجازات.

يبقى السؤال الأهم وهو: هل ستستفيد دول المنطقة من تحسن إيراداتها النفطية لبناء قطاعات إنتاجية وخدماتية أخرى ولمواصلة عملية الإصلاح الاقتصادي والإنفاق أكثر على البحث والتطوير لكي تكون قادرة على العطاء والتفاعل مع الوضع الطبيعي الجديد؟ صحيح أن عددا من مؤسسات القطاع الخاص ما زال مثقلا بالديون وبحاجة إلى إعادة ترتيب أوضاعه المالية والائتمانية، غير أن هذا القطاع هو المؤهل لقيادة عملية النمو، والمطلوب من الحكومات توفير البيئة الاقتصادية والمناخ الملائم للاستثمار والذي يشمل الاستقرار المالي والنقدي، سيادة القانون، توفير الأمن، وجود أسواق رأسمالية فاعلة، احترام حقوق الملكية والحد من الفساد والبيروقراطية ضمن غيرها من الشروط. وعلى القطاع الخاص عدم القبوع في انتظار أن يتحقق السلام بين العرب وإسرائيل أو أن تخرج الحكومات من تقوقعها أمام مصالحها الضيقة، بل عليه أخذ المبادرة في عملية التكامل والاندماج والتركيز على الإبداع لإحداث التغير والذي إن تحقق سيضع الدول العربية في مرتبة الدول الصاعدة الأخرى.