عندما يفوز المختلون

TT

في اعتقادي أن أكثر ما سيحير المؤرخين عندما يعودون بأنظارهم إلى وقائع الفترة بين عامي 2008 و2010، هو انتصار الأفكار الفاشلة. مثلا؛ على الرغم من أن الأنصار المتشددين لفكر السوق الحرة ثبت خطأ أفكارهم جميعها؛ فإنهم الآن يهيمنون على المشهد السياسي أكثر من أي وقت مضى.

والتساؤل الآن: كيف حدث ذلك؟ كيف بعد أن دفعت المصارف الفاشلة الاقتصاد للهوة، نجد شخصا مثل رون بول، الذي قال: «لا أعتقد أننا في حاجة لجهات تنظيمية»، على وشك تولي رئاسة لجنة بالغة الأهمية بمجلس النواب تشرف على مصرف الاحتياطي الفيدرالي؟ وكيف بعد التجارب التي خضناها في ظل إدارتي كلينتون وبوش - حيث زادت الأولى الضرائب وشهدت فترتها نموا مذهلا في فرص العمل، بينما خفضت الثانية الضرائب وشهدت حقبتها نموا اقتصاديا هزيلا حتى قبل الأزمة الاقتصادية - ينتهي بنا الحال إلى اتفاق بين الحزبين؛ الديمقراطي والجمهوري حول إقرار مزيد من التخفيضات الضريبية؟ الإجابة التي تأتينا من تيار اليمين تقول إن ذلك يعود إلى أن الإخفاقات الاقتصادية لإدارة أوباما تكشف أن السياسات الحكومية الكبرى ليست ناجعة. لكن ردنا على ذلك ينبغي أن يكون: وما المقصود بالسياسات الحكومية الكبرى؟

في الواقع، اتسمت خطة التحفيز الاقتصادي لأوباما، التي تمثل في حد ذاتها تخفيضات ضريبية بنسبة تقارب 40%، بحذر بالغ جعل من المتعذر عليها إحداث تحول اقتصادي ضخم. وكانت هذه الحقيقة واضحة منذ البداية، وقد حذر كثير من الخبراء الاقتصاديين، وأنا بينهم، منذ بادئ الأمر من أن الخطة تعاني قصورا جسيما. وأعتقد أن سياسة تضاءل في إطارها التوظيف الحكومي، ونما الإنفاق الحكومي على السلع والخدمات بمعدل أبطأ عن ما كان عليه في عهد رئاسة بوش، لا تمثل اختبارا لسياسات اقتصادية «كينيزية».

ربما لم يكن ممكنا حصول الرئيس أوباما على أكثر من ذلك في وجه الشكوك التي أبداها الكونغرس تجاه الحكومة، لكن حتى لو كان ذلك صحيحا، فإنه لا يكشف سوى استمرار هيمنة عقيدة فاشلة على حياتنا السياسية.

يذكر هنا أن كل ما ذكره اليمين حول الأسباب الداعية لفشل السياسات الاقتصادية «الأوبامية» اتضح خطؤها. على مدار عامين، جرى تحذيرنا من أن الاقتراض الحكومي سيدفع معدلات الفائدة نحو عنان السماء، بينما في الواقع تأرجحت المعدلات ارتفاعا وهبوطا مع ازدياد مشاعر التفاؤل أو التشاؤم حيال استعادة الاقتصاد عافيته، لكنها ظلت منخفضة قياسا بالمعايير التاريخية. وطيلة عامين، جرى تحذيرنا من أن التضخم؛ بل وتضخم هائل، يقف على بعد خطوات منا. بدلا من ذلك، استمرت حالة من انحسار معدلات التضخم، مع وصول معدل التضخم الأساسي؛ الذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة المتقلبة؛ عند أدنى مستوى له منذ نصف قرن.

كما اتضح خطأ آراء الأنصار المتشددين للسوق الحرة حيال أحداث عالمية واسعة النطاق مثلما كانوا خاطئين بشأن أحداث داخل أميركا، ومع ذلك لم يعانوا جراء ذلك سوى تداعيات ضئيلة للغاية. مثلا، أعلن جورج أوزبورن عام 2006 أن «آيرلندا تقف كمثال مضيء على فن الممكن في صنع السياسات الاقتصادية طويلة الأمد». وعلى الرغم من أن هذا الرأي أثبتت الأيام خطأه، فإن أوزبورن يعد حاليا أكبر مسؤول اقتصادي في بريطانيا.

وعبر منصبه الجديد، ينوي أوزبورن محاكاة السياسات التقشفية التي أقرتها آيرلندا في أعقاب انفجار فقاعتها الاقتصادية. وقد أغدق المحافظون على جانبي الأطلسي طوال العام الماضي الثناء على السياسات التقشفية الآيرلندية باعتبارها أحرزت نجاحا مدويا. عن ذلك، صرح ألان رينولدز، من «معهد كاتو» في يونيو (حزيران) الماضي، بأن «التوجه الآيرلندي نجح بين عامي 1987 و1989، وهو يثبت نجاحه ثانية الآن».

ومع ذلك، يبدو أن مثل هذه الإخفاقات لا تمثل أهمية. وأود هنا اقتباس عنوان كتاب أصدره مؤخرا العالم الاقتصادي الأسترالي جون كويغين حول العقائد الاقتصادية التي كان ينبغي أن تقتلها الأزمة، لكنها لم تفعل، حيث أرى أننا ربما نخضع الآن أكثر من أي وقت مضى لـ«سياسات المختلين الاقتصادية». لماذا؟

يكمن جزء من الإجابة قطعا في أن الأفراد الذين كان ينبغي لهم محاولة القضاء على أفكار المختلين، سعوا بدلا من ذلك للتوصل لحلول وسط معهم. وينطبق هذا الأمر على الرئيس، وإن كان لا يقتصر عليه. ويميل الناس لنسيان أن رونالد ريغان غالبا ما كان يقدم تنازلات بشأن السياسات؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك إقراره كثيرا من الزيادات الضريبية. ومع ذلك، لم يتردد قط في شأن الأفكار التي يؤمن بها، ولم يتراجع قط عن موقفه حيال صحة الآيديولوجية التي يؤمن بها وأن خصومه على خطأ.

على النقيض، نجد أن الرئيس أوباما حاول باستمرار التوصل لحلول وسط عبر توفير غطاء لخرافات يمينية، فقط أشاد بريغان لاستعادته الديناميكية الأميركية (متى كانت آخر مرة سمعت جمهوريا يشيد بفرانكلين روزفلت؟)، إضافة إلى اتباعه الخطاب الجمهوري حول حاجة الحكومة لـ«شد الحزام»، حتى في مواجهة الركود، وعرضه إجراءات تجميد رمزية للإنفاق والأجور الفيدرالية.

إلا أن أيّا من ذلك لم يمنع اليمين من التنديد به كاشتراكي، وإنما ساعد فحسب في تمكين أفكار رديئة على نحو بمقدوره التسبب في أضرار فورية. حاليا، يشيد أوباما باتفاق خفض الضرائب باعتباره يشكل دفعة للاقتصاد، لكن الجمهوريين يتحدثون بالفعل عن تخفيضات ضريبية بإمكانها القضاء على أي تأثيرات إيجابية مترتبة على الاتفاق. وكيف يمكنه معارضة هذه المطالب بفعالية بينما أقر بنفسه الحديث عن ضرورة التقشف؟

إن السياسة حقا هي فن الممكن. ونحن جميعا نتفهم الحاجة للتعامل مع خصوم المرء السياسيين. لكن التعامل معهم بما يعزز أهدافك شيء، وفتح الباب أمام أفكار المختلين شيء آخر. عندما تفعل ذلك، ينتهي الأمر بالمختلين إلى القضاء عليك؛ وربما على اقتصادك أيضا.

*خدمة «نيويورك تايمز»