غياب أبو العبد

TT

أكثر ما يحزن في بيروت التي فقدت شهداء وطيبين ومناخات وودا وعادات، هو فقدان الرفيق والأنيس أبو العبد البيروتي. كان أبو العبد يضحك الناس، تقريبا كل يوم. كل من سمع نكتة في بولندا أو مصر أو الأرجنتين، يعربها ويلبننها ويعطيها اللهجة البيروتية وينسبها إلى صديقنا أبو العبد. يكفي أن تضيف إلى النكتة «مرحبا يا خال» أو «اشبنا» (إيش بنا) أو «أشو اشبنا»، حتى تضحك لك الناس.

ولم تكن شخصية أبو العبد خيالية، بل هي مجموعة ملامح للبيروتي القديم، الذي كان يعتمر الطربوش ويلبس القنباز (الجلابية) ويحمل عصا خيزران رفيعة يضربها في الهواء مثل سوط الخيل، فتهتز لها كبرياء أبو العبد وترتجف لها أوصال خصومه. وأبو العبد كان نبيلا كريما وشهما. ويروى عن قبضاي بيروتي من آل السردوك أنه قتل رجلا شتم أخته. فاعتقل وسجن وحكم بالإعدام. وجاءه شقيق الرجل القتيل وعرض عليه صفقة العمر: دعني أشتم أختك فنطلب لك العفو! وفضل ابن السردوك الإعدام.

كانت كلمة «بيروتي» مرادفة للعزة والأنفة والخصال العالية. فلم يكن البيروتي الفقير يمد يده طلبا للمساعدة؛ لذلك كان المحسنون المجهولون يرمون إليه المساعدات في رمضان من نافذة كوخه الخشبي: كل طفل فقير كان يعرف أنه في 25 رمضان سوف يمر من جانب التخشيبة من سوف يرمي له ثمن ثياب العيد.

تلك كانت بيروت قبل أن تكثر عليها الأرياف والجرود. وقبل أن يصبح أبو العبد البيروتي موضع نكات ممتعة وشخصية تضحك لها الناس على مسارح بيروت، كان في حقيقته شخصية «وطنية» تحرك مشاعر الناس والبسطاء أمثاله. وآخر ما سمع عنه، عندما تكاثرت النكات حول إحدى المطربات الحسناوات، أنه وجه لها رسالة الشكر التالية: «ولي اخطي (أختي) آني ممنون تشريفك، خليتوهم يحلوا عن ضهري شوي».

وفي حالة الوجوم والقلق التي تعم البلد اختفى أبو العبد تماما من بيروت وتركها للثقلاء والسياسيين وفاقدي النخوة. وحل التهديد بالرشاشات محل خيزرانة أبو العبد. وفقدت مقاهي بيروت تلك الشخصية الزاهية، وبقيت فقط «الأراجيل» التي تقتل الناس سبعين مرة ضعف السيجارة الخبيثة.