صفحة من تاريخ المسيرات

TT

السير الجماهيري لمسافات طويلة لأغراض دينية أو سياسية ظاهرة تاريخية اعتمدها كثير من الشعوب. عرفت منها شخصيا وشاركت فيها، المسيرة السنوية التي دأبنا عليها في بريطانيا ضد الأسلحة النووية باسم «الحملة لنزع الأسلحة النووية»، التي عرفت اختصارا بحروف «CND». كانت تنطلق من شمال إنجلترا وتزحف نحو لندن، تقودها شخصيات لامعة مثل مايكل فوت، رئيس الحكومة العمالية فيما بعد، واللورد بروكوي، والأسقف سوبر، والممثلة فانيسا ردغريف، والكثير من نجوم السينما والمسرح. تصاحبها أجواق موسيقية وفرق غنائية، وتزينها شتى الشعارات والرايات. استغرقت المسيرة عدة أيام، ينام القوم خلالها في العراء أو ينصبون الخيم.

وعلى غرارها جرت المسيرة التاريخية ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة التي قادها القس مارتن لوثر كينغ، من المسيسبي إلى واشنطن. وأفضت في الأخير إلى تحريم التمييز العنصري.

المسيرات السياسية الصرفة ظاهرة جديدة في التاريخ. وكمعظم الظواهر الديمقراطية ظهرت أولا في بريطانيا في القرن التاسع عشر. حدث أن قرر أصحاب الأراضي تخفيض أجور العمال الزراعيين (الفلاحين). فتجمع ستة منهم في قرية توبدل، وأسسوا نقابة للدفاع عن حقوقهم وأقسموا اليمين على مواصلة ذلك النضال. اعتقلتهم الشرطة وأحالتهم للمحاكم بدعوى القسم بيمين غير شرعي. حكموا عليهم بالنفي لأستراليا عام 1834. اجتمع جمهور القرية وساروا في مسيرة طويلة من دورست إلى لندن يحملون عريضة وقعها 20 ألف مواطن لتقديمها للبرلمان، احتجاجا على الحكم. استغرق النواب ساعتين في مناقشة العريضة، ثم قرروا أن حكم المحكمة جاء منافيا للقانون وأمروا بإعادة المنفيين الستة. اعتبر الإنجليز تلك الواقعة البذرة الأولى لقيام الحركة النقابية وإحقاق حقوق العمال. يحتفل الآن أهل القرية سنويا بذكرى تلك الواقعة في مسيرة رمزية يلقى خلالها الكثير من الخطابات وتنشد الأناشيد العمالية ونحو ذلك. ودخل أولئك الفلاحون الستة التاريخ البريطاني باسم «شهداء توبدل».

بيد أن الإنجليز سرقوا هذه الأولية في الحقيقة من الفرنسيين. ففي عام 1789، زحف المواطنون من أهل مرسيليا في مسيرة طويلة قطعت مئات الأميال من مرسيليا إلى باريس، يحملون رايات الثورة، الحمراء والبيضاء والزرقاء، وشعار الثورة: «حرية ومساواة وأخوة». وينشدون ذلك النشيد التاريخي المعروف بـ«المارسيليز»، الذي أصبح النشيد والسلام الوطني لفرنسا.

هبوا يا أبناء وطننا

لقد حل يوم المجد

وأصبحت مسيرتهم الطلقة التي أضرمت الثورة الفرنسية.

وهناك في الهند، اقتبس غاندي فكرة المسيرات بتلك المسيرة التاريخية الخالدة «مسيرة الملح»، التي صبت في الأخير بمصب استقلال الهند. قطعوا فيها مئات الأميال من أواسط الهند إلى البحر ليتحدوا الإنجليز في إنتاج الملح (الذي كانت تحتكره بريطانيا) من البحر. وبعد غد، سأنتقل إلى مسيرات العراقيين.