تفكير آخر في القضية الفلسطينية

TT

من عاشر القضية الفلسطينية كما عاشرها جيلنا يعرف أنها تمر بمراحل ودورات؛ أحيانا تصل إلى عنان السماء تمتلك الراية الأخلاقية العالمية، وتزحف زحفا نحو الأرض الفلسطينية، وتحصل على اعتراف الدنيا ويصبح لها حتى سلطة وطنية. وفي أوقات أخرى تكون مشاغل العالم من الكثرة بحيث لا يوجد في الصبر منزع لقضية لم يعد لها حل، وانقسم أهلها بين من يريد الكفاح إلى الأبد، ومن يريد التفاوض حتى نهاية التاريخ. وفي المرحلة الراهنة باتت القضية كلها على أبواب ثلاجة كبرى فلا المفاوضات غير المباشرة وصلت إلى شيء، ولا المفاوضات المباشرة قامت أصلا؛ لأن إسرائيل ليست على استعداد لوقف الاستيطان، وأميركا تقول إنها ليس على استعداد للضغط عليها لتوفير مناخ مناسب للتفاوض الذي على الأرجح لن يصل إلى حل هو الآخر.

النتيجة بحث عن طرق أخرى، وفي الأسبوع الماضي طرحنا حلا برازيليا يقوم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن حدود يونيو (حزيران) 1967 ومن ثم تصير عاصمتها القدس الشرقية. ولكن الكونغرس الأميركي بدأ بالفيتو حتى قبل عرض الموضوع على مجلس الأمن، ولكن الاقتراح يبدو أنه سوف يكون له مساره وفصوله في قادم الأيام.

ولكن يبدو أن القريحة الفلسطينية لن تتوقف عن إنتاج الأفكار الخاصة بحل القضية، ودون سابق إنذار بدأ بريدي الإلكتروني يتلقى أفكارا من جماعة تؤسس لحزب «فلسطين الحرة» لها من الأفكار ما يثير الاهتمام. فهي لا تركز بشكل أساسي على «القضية الفلسطينية» ولا على «فلسطين»، وإنما على جماعة تم إهمالها لسنوات طويلة وهي «الفلسطينيون» أنفسهم كشعب وجماعة من البشر، يعيش بعضهم في المنافي والقفار، وبعضهم الآخر تحت الحكم الإسرائيلي، وبعضهم الثالث لاجئين في دول غنية أو فقيرة، وبعضهم يعيش تحت حكم فلسطيني من جماعة فتح في الضفة الغربية، أو تحت حكم فلسطيني آخر من جماعة حماس في غزة. هؤلاء موضع اهتمام الحزب الجديد، وهم من وجهة النظر هذه ليسوا زعماء وقادة وأصحاب قضية وطنية كما تراهم فتح، ولا هم مشروع شهيد أو انتحاري كما تراه حماس. هنا هم بشر اشتد بهم الشوق إلى حياة طبيعية ينعمون فيها بالسعادة والاتصال بين كل أطراف الجماعة الفلسطينية حيثما يكونون وأينما يعيشون.

بحثت في كتبي الفلسطينية فوجدت حزبا فلسطينيا اسمه «الحزب الحر الفلسطيني» تأسس في أول يوليو (تموز) عام 1927، ومقره مدينة يافا، وأسسه العديد من الكوادر الفلسطينية من السياسيين وأصحاب الأعمال أمثال عبد اللطيف أبو خضرة، والشيخ عبد القادر أبو رياح، وموسي الكيالي، وعيسى داود العيس وغيرهم. وقد أدت الخلافات التي نشبت بين بعض القوي والتيارات السياسية التي كانت محسوبة علي المعارضة السياسية في فلسطين إلى الإسراع في تشكيل الحزب وظهوره على الساحة السياسية. وقد اتسمت الفترة التي ظهر فيها الحزب بوجود حالة من الركود السياسي العام. لكن الحزب كان يعتبر أحد أكبر الأحزاب الفلسطينية في فترة ما قبل حرب عام 1948.

ضاع ذكر الحزب في كتبي الفلسطينية على أي حال حتى ظهر مرة أخرى في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي حينما طرح فكرة «إعادة الاعتبار للشعب الفلسطيني» ليس عن طريق انتخابات عامة تقرر أيا من حماس أو فتح له قصب السباق بين الفلسطينيين وإنما الربط بين الفلسطينيين في كانتوناتهم المختلفة والحفاظ على ذاتيتهم الثقافية. ولكن اللافت للنظر خارج هذه الدائرة العامة من المبادئ ثلاثة أمور: الأول تعزيز المعايير المهنية ومهارات التفكير والحوار لدى الفلسطينيين وهي صيحة رفض، ربما سخط، على لغة الحوار الفلسطيني التي ملت اللغة الملتهبة القومية والإسلامية والتي تتجاهل «الفلسطيني» الذي كل ما عليه هو أن يسلم نفسه لعقل وفكر وكفاح آخر. وثانيها دعم حركة السياحة العربية والإسلامية تجاه فلسطين؛ وتشجيع العقول والمثقفين والمهنيين العرب للعمل والاستقرار في فلسطين؛ وتشجيع الأثرياء الفلسطينيين والعرب للاستثمار في فلسطين. لاحظ هنا أن كل ما ذكر هو من ناحية يدعو إلى حركة مناوئة للاستيطان الإسرائيلي باستيطان عربي مقابل أو هو بالتأكيد أكبر منه بحكم العدد على الأقل. ولاحظ أيضا أن كل ذلك لا يعد «تطبيعا» فالفضيلة في الوجود والتأثير وتغيير الظروف على الأرض، وتوفير الشروط للصمود. وثالثها «فتح الحدود مع الأردن»، ومن الجائز أن يكون ذلك استمرارا للفكر الذي يربط ما بين أكبر كتلتين من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والأردن. ولكن الجائز أيضا، أو على الأقل هذا ما سوف يطرحه مشككون، أن الموضوع كله هو محاولة أردنية لإعادة عقارب الساعة إلى ما وراء الفصل ما بين الضفتين أو - وهذا احتمال آخر - يشكل طرحا مجددا لفكرة الكونفيدرالية بين الأردن وفلسطين وهي فكرة طرحت من قبل في مراحل مختلفة من مراحل المفاوضات العربية الإسرائيلية.

كل ذلك يقع في إطار منظومة فكرية بزغت مؤخرا داخل الشارع الفلسطيني بدأ صوتها الخافت يبرز في وسائل الإعلام، مؤخرا، حيث تشير إلى أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لا تكون من خلال الأدوات العسكرية فقط بل يمكن للمقاومة أن تحقق أهدافها من خلال الأدوات السلمية مثل السياحة والاستثمار، وهو ما تضمنه برنامج الحزب. ولا يعني ذلك التخلي عن خيار المقاومة وإنما طرح بدائل أخرى للتعامل مع الوضع الشائك تحافظ على الشعب الفلسطيني وبقائه على أرضه فضلا عن بناء مؤسساته وروابطه ووشائجه التي تحافظ عليه. وهى أفكار لم تأت كلها من الحزب الفلسطيني الحر، ولكن بعضا منها جرى على لسان رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض حتى ولو جاء بكلمات مختلفة.

إن الخيار الثالث الذي يدعو إليه مؤسسو الحزب هو مخاطبة الأغلبية الصامتة من الشعب الفلسطيني، ويتعامل مع الشأن الفلسطيني برؤية واقعية تبتعد عن الشعارات الأيديولوجية المستهلكة والتي اعتاد سماعها منذ عقود طويلة، ولم يحدث منها تحرير للأرض أو تشهد تنمية تحافظ على الشعب الفلسطيني على أرضه حيث بات يتركها إلى بلاد أخرى كلما حانت له الفرصة.

إلى أي حد تجد مثل هذه الأفكار صدى داخل الشعب الفلسطيني، وهل يكون مصيرها التفكير والتدبير أم الإدانة والتشكيك كما جرت العادة، وهل من الممكن أن تتعدى فكرة سياسية بهذه الأصالة حدود العالم الافتراضي الإلكتروني إلى ساحة لم تعرف طوال التاريخ الحديث إلا شعارات بسيطة؛ كلها أسئلة ليس لدينا إجابة عليها. ولكن ما لدينا هو أن ننشر الرسالة التي وصلت إلينا، وأن نطرح على الساحة الفلسطينية والعربية فكرة جديدة وسط ظلام دامس من الأفكار!