لماذا لم يسافر؟

TT

كتبت غير مرة - وكتب كثيرون - عن عدم سفر نجيب محفوظ إلى السويد لتسلم جائزة نوبل، وتصورت أن السبب هو تواضعه الجم، أو ضعفه وتقدمه في السن، أو عزلته الأبدية بين الوزارة ومقهى «الفيشاوي» ومنزله. ولم أحاول مرة أن أبحث عن سبب آخر، لأنه لم يكن يخيل إلي أن هناك أي سبب آخر.

رسم نجيب محفوظ لنفسه في عقولنا وذاكرتنا صورة، ثم حفر لها إطارا، وتركنا نعيش مع الصورة على الجدار بلا نقاش. وصرنا نمر بها من دون أن نتأملها أو أن نحاول دراسة ملامحها.. طقم «صحراوي» الزي ونظارتان و«خال» على الخد وابتسامة دائمة مثل ابتسامة رمسيس. وهذا كل شيء.. رجل ناحل وضعيف ومنكفئ ولا يريد من الناس إلا معشر المقهى، فلما حانت اللحظة العالمية وسلطت أضواء الكون، قرر أن يتسلم نوبل في «الفيشاوي»، وأن يرقب الحفل من غرفة الجلوس في المنزل.

عرفت متأخرا - من قراءة جلال أمين - أن حائز «نوبل الآداب»، لم يسافر في حياته إلى أي مكان؛ لا إلى الشرق ولا إلى الغرب ولا إلى الإسكندرية ولا إلى بور سعيد ولا إلى الريف المصري! كل أسفار العمر لم تتعد رحلة أسبوع إلى الفَيُّوم، ثم حزم أمتعته بسرعة بعدما طالت غربته عن القاهرة واشتد حنينه إليها.

وكنا نعتقد أن نجيب محفوظ خلق كاتبا، في يد دفتر، وفي يد قلم حبر أو رصاص، وإذ بنا نعرف أن الطالب نجيب محفوظ كان الأول في الموسيقى ولم يكن يريد أن يصبح في هذه الدنيا إلا موسيقيا.. وكنا طوال هذا العمر نعرف أنه رجل ناحل ضعيف غير قوي إلا على المشي، وإذا بنا نعرف أنه كان من أمهر لاعبي الكرة، وأنه كان يحلم بأن يصبح بطل مصر، زملكاويا أو أهلاويا، لا فرق، ولا أهمية.

سافر فنانو مصر وأدباؤها في كل العالم.. عاش طه حسين وتوفيق الحكيم في فرنسا، وجال يوسف إدريس في العالم طوال حياته، ونفي شوقي وبيرم التونسي إلى أوروبا، وسافر التابعي وهيكل وأبناء أمين في أنحاء الأرض.. وظل نجيب محفوظ متربعا يحرس النيل عند الأهرامات.. لم يذهب حتى إلى أسوان والأقصر.. لم يعرف الصعيد إلا بالقراءة.. لم يحب الريف إلا من خلال «دعاء الكروان». مثل الحمل الوديع ولد وعاش في القاهرة لا يغادرها خوفا من أن يفقد شيئا منها. تصور إنسانا عاديا يعيش كل عمره في مكان واحد. أنا واثق من أن «أبو الهول» كان يغبطه على هذه الطاقة على الالتصاق بالمهد، وأما هو فطالما تململ يريد الانتقال أو الكلام.