غاب ملك الحوار

TT

إذا أردت أن تتعلم فن الحوار عمليا، لا بد أن تعرف ما الذي جعل المذيع الأميركي المخضرم لاري كينغ يصبح صاحب أفضل برنامج حواري في العالم، إذ دخل به موسوعة غينيس للأرقام القياسية لأطول بث برامجي من نوعه، باستقباله لأكثر من 40 ألف ضيف من ألمع نجوم الفن والسياسة والاقتصاد والإعلام يتقدمهم رؤساء دول عالمية كثيرة، وصار صاحب أعلى دخل يمنح لمقدم برنامج حواري.

لاري كينغ ذلك المذيع الهادئ، ليس محاورا تقليديا بل يخفي خلف هدوئه، الذي حير المشاهدين، سلوكا مقصودا أثناء الحوار، إذ إنه يؤمن، حسب قوله، بأن سر نجاحه إنما يعود في المقام الأول إلى «حسن إنصاته» لأنه يؤمن بأنك «لن تكون متحدثا جيدا ما لم تحسن الإنصات إلى محدثك». ويقول في كتابه الرائع «How to Talk to Anyone Anytime Anywhere?» (ترجم إلى العربية) «إنني لم أتعلم شيئا في حياتي وأنا أتحدث، وفي كل صباح أدرك أنه ما من شيء أتفوه به اليوم سوف يعلمني أي معلومة جديدة»، في إشارة إلى أنك حينما تتحدث فأنت تفرغ ما في جعبتك من معلومات ولا تستقبل شيئا جديدا بخلاف الإنصات. ويرى كينغ أنك إن أردت أن تمسك بزمام الحوار وتشد انتباه جليسك، فاختر موضوعا يناسب اهتماماته. «فكل فرد لديه موضوع واحد على الأقل يحب التحدث عنه»، وفق قوله. ربما يكون هذا الأمر، مثلا، مهارة يمتاز بها، أو أمرا يتحدث عنه بكثرة كالأسهم أو العقارات أو الرياضة أو غيرها من الهوايات أو النجاحات البارزة. لكن لاري يحذرنا قائلا إياكم أن «تكونوا جادين في الحوار لمدة طويلة» فهذا الأمر أدعى إلى نفور المستمعين. وهذا كلام سليم لأن من يتابعون الحوار يحتاجون إلى شيء من الفكاهة أو الطرافة أو إشراكهم في الحوار. وربما هذا ما دفع برنامجه إلى ابتداع فكرة أولى من نوعها في البرامج الحوارية بالعالم وهي تلقي الاتصالات الهاتفية من المشاهدين، لأنه يؤمن أن إشراك السامع مهم لدفع الملل ورفع معدل تفاعل المتحدثين. وقال أيضا ذات مرة، عندما أدخل إلى حفلة أو مناسبة اجتماعية فإنني أشجع الخجول أو الممسك عن الكلام على الدخول في النقاش، من خلال النظر إليه بصورة متكررة، وربما توجيه أسئلة سهلة الإجابة إليه حتى يكون معظم الحاضرين متفاعلين مع الحوار.

ومن أسرار الحوار الناجح أيضا أن لاري يشجع ضيوفه على التحدث عن أنفسهم، ولا يقاطع إلا للضرورة، لأن الحديث عن النفس يجعلك تنهمك في الحوار وربما تنسى نفسك. وهو ما نحتاجه أحيانا في الحوار عندما نتعرف إلى صديق جديد أو نحاول العودة بالمياه إلى مجاريها مع شخص عزيز تصدعت علاقاتنا به بسبب مشادة كلامية سابقة.

وربما ما يميز لاري أنه لا يعد نفسه نجم الحوار، أو محط الأنظار، كما نشاهد في «بعض» البرامج الحوارية العربية التي يلعب فيها المذيع دور النجومية على حساب ضيفه، ولا يفسح له المجال المريح للتعبير عن فكرته فتخرج مشوهة وتزيد من توتره. بل ربما يتحدث المذيع أكثر من ضيفه، مما يعطي انطباعا خاطئا لنا كمشاهدين عن أصول الحوار وبديهيات احترام الرأي «المعاكس»! عندما تشعر ولو قليلا بأنك أهم من جليسك سوف يؤثر ذلك حتما على طريقة تحدثك معه وعلى مدى حرصك على الاستفادة من كلامه. ويبدو أن لاري كينغ لم يكن ذكيا في الحوار التلفزيوني فقط، بل كانت له تكتيكاته خارج الاستوديو أيضا، فهو ينصح من يقع في مأزق الاستماع إلى موضوع ممل، أن يستأذن بالذهاب إلى دورة المياه التي يعتبرها «أضمن طريقة للهروب من أي نقاش، على أن تبدأ فور عودتك بنقاش مختلف مع شخص جديد»!

للأسف الشديد سوف يفتقد ملايين الناس حول العالم لاري كينغ بعد أن ترجل عن صهوة جواده باعتزاله العمل الإعلامي، قبل أيام، وقد ترك فراغا كبيرا في أدب الحوار التلفزيوني والحياتي، ولا ألوم شبكة «CNN» الإخبارية التي كانت تقله أسبوعيا من منزله في نيويورك إلى مقر عمله في لوس أنجليس بطائرة خاصة، ربما لأنها كانت تدرك أنها تقدم نموذجا فريدا في الحوار الإعلامي الرفيع الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه اليوم في عالمنا العربي.

[email protected]

* كاتب متخصص في الإدارة