العراق والمسيرات اللطمية

TT

كثيرا ما ارتبطت المسيرات بالدين. هكذا جرت في عهد الإغريق. وفي القرون الوسطى اعتاد الآثمون على السير زحفا للفاتيكان طلبا لمغفرة البابا. نرى صورة من ذلك في أوبرا تنهاوزر. وحتى في هذا العصر، غالبا ما اعتاد رجال الدين، غاندي ولوثر كينغ واللورد سوبر، على قيادة هذه المسيرات.

لشيعة العراق مسيراتهم التي ارتبطت باستشهاد آل البيت، وعلى رأسهم طبعا الإمام الحسين. أصبحوا يطلقون على هذه المسيرات مؤخرا المسيرات المليونية، نظرا لتجاوز المشاركين فيها هذه الأعداد. أشهرها ما يعرف بـ«ركضة طويريج». فالمعتقد أن قبيلة بني أسد، التي تسكن هذه المنطقة سمعت بمحنة الإمام الحسين وطلبه الماء. فهرع أبناء القبيلة لنجدته، ولكن طبعا، على عادة العرب، وصلوا بعد فوات الأوان. يحتفل أهل طويريج بتلك الذكرى يوم عاشوراء بالركض نحو مدينة كربلاء. وتشاركهم في الركضة جموع غفيرة أخرى.

وبالنظر للمسافات الطويلة التي تستغرق عدة أيام من السير على الأقدام إلى كربلاء، فقد دأب المحسنون على طبخ وتجهيز أطعمة وماء في محطات مختلفة لخدمة السائرين.

من المعتاد للمسيرات أن تجري بشكل جوقات أو مواكب متقطعة تتقدمها الرايات والشعارات والطبول. وتنشد شتى الأناشيد، أو ما يعرف بالردات، بالمناسبة. تنشد كوكبة قطعة قصيرة، فترد عليها الكوكبة التالية بقطعة جوابية، غالبا من ذات الوزن والقافية. ومن هنا جاء اصطلاح «الردة». ويستمر السير باستمرار الردات التي كثيرا ما يرتجلونها مع السير وعلى الوقع الإيقاعي للطبول واللطمات على الصدور. إنه مشهد مؤثر جدا، صوتيا ومرئيا. مئات الصدور العارية احمرت كالبنجر من اللطم، تزحف هوينا هوينا، نحو مشهد المقتل بين عويل النساء على الجانبين.

بدأت هذه «الردات» تأخذ طابعا سياسيا، فيصعب على السلطة قمعها بالنظر لإطارها الديني. لكن صدام حسين لم يعبأ بذلك، فأطلقت الشرطة الرصاص على السائرين من النجف لكربلاء بعد أن أنشدوا ردات صريحة في شتمه. وحصل عندئذ ما سمي بمجزرة خان النص. وردتني مؤخرا نماذج من ردات سياسية أنشدها المعزون في عاشوراء الماضي وهم يلطمون على صدورهم. وعبرت بمرارة عن سخطها على ما يجري في بلدهم. يخاطبون الأمام الحسين في قبره:

«يا حسين اسمع هالصوت

شعبي كالجمل صبح ياكل عاقول، لكن عالظهر كله ذهب محمول».

فترد عليهم الكوكبة التالية:

«شنهو الذهب مفعوله؟ لو عايش على عاقوله!».

وتستمر المجموعة بالسير، ضربا بالطبول ولطما على الصدور: دم..! دم..! دم...! حتى تنطلق الردة التالية:

«يا حسين اسمع هالصوت

ثروة ومنهوبة وتلعب بيها الأحزاب! وابن بلادي ضايع بين الأغراب، دم..! دم...! دم..!».

وترد عليهم الكوكبة التالية:

«والجمعية الوطنية... رواتب مليونية!».

والطريف أن تعبر إحدى الردات عن الحنين للعهد الملكي:

«وينك يا نوري، وين العرش، وهالطغيان؟ وينك يا مصلح، تعطي جزا كل من خان؟».