العقل... في مواجهة التربية الحزبية

TT

غالبا ما يعتقد الإنسان صحة الفكرة في بيئته الأولى، ثم يرتقي به اعتقاده إلى درجة المسلمات التي لا تقبل المناقشة، فإذا انفتح على بيئة أخرى، تغيرت معارفه، وتنوعت خبراته، فاكتشف أن فكرته الأولى لا تستحق مرتبة المسلمات. شعوره بكمال بيئته الأولى قاده إلى البعد عن التدبر والتأمل، ومن ثم الانكماش والتخلف. أما لو كان يعيش هاجس التكميل لا الكمال، والبحث عن النمو المستمر، فإن ذلك سيقوده، ولا بد، إلى سبيل الإبداع والنهوض. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم مقولة الحسن البصري رحمه الله: «تفكر ساعة خير من قيام ليلة».

إن التفكير العقلاني وسيلة من وسائل الانفكاك من قيود الرتابة الفكرية، وكسر لاحتكار الحقيقة، الذي يدعيه البعض. ففي مواضع كثيرة من القرآن الكريم، حث للإنسان على تبني نهج التدبر والتفكر. ومن هنا، يمكن القول: إن العقلانية ليست، بالضرورة، انحرافا فكريا كما يصوره البعض أو يسيء فهمه، كما أنها ليست وحدها أيضا التي تشكل المنهج المتكامل للفرد المسلم، بمعزل عن الشريعة الشاملة، ونصوص الوحي الرباني كما يريده البعض الآخر.

وللتأثر بالبيئة أشكال متعددة، منها على سبيل المثال: تأثر الفرد بأفكار ومبادئ أقرانه أو المجتمع الذي يعيش فيه أو الجماعة والحزب الذي ينتمي إليه. ومن تجربة شخصية مررت بها في أواخر السبعينات الميلادية عندما كنت طالبا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث كان مصطلح «البلوريتاريا» يتم تداوله والترويج له من قبل بعض الدارسين العرب.

ففي إحدى المناسبات الطلابية الخاصة بالطلاب العرب في الجامعة التي كنت أدرس فيها، كان أحد المتحدثين من العرب الزائرين من جامعة أخرى، يخطب بحماس شديد عن أوضاع العالم العربي ودول الخليج بصفة خاصة، وعن الدور المنتظر الذي يجب أن تلعبه طبقة «البلوريتاريا» في تلك الدول، لتحرير مجتمعاتها وتبني الاشتراكية بشكلها الأممي. عقبت على كلام المتحدث بالسؤال عن هذا المصطلح وجذوره الشيوعية، وعن مدى معرفه المتحدث، كونه عربيا، بطبيعة مجتمعاتنا العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص وعمق الجذور الدينية فيها؟، وهل من الملائم لها استنساخ دور «البلوريتاريا» في المجتمعات الشيوعية وتطبيقها على مجتمعات لا وجود لتلك الطبقة فيها؟! بل إنني سألته: هل هو مؤمن بالفكر الذي يقف خلف هذا المصطلح؟! فاستشاط غضبا، كوني تجرأت وسألته بهذه الطريقة. وأسقط في يده، ولم يجد جوابا منطقيا مقنعا!.

كنت وما زلت أتعجب كثيرا من تسليم بعض من تلك الجموع الحاضرة عقولها لذلك الرجل، مع أنهم من الطلبة النابهين! ويعيشون في مجتمع منفتح، يتيح لهم المعلومة دون تشويش، ويسمح لهم بالتعبير عن الرأي ومقارعة الحجة بالحجة دون قيود، بل ويحضهم على ذلك. ليس عندي تفسير لذلك غير سيطرة الفكر الجمعي أو «التربية الحزبية»، ودورها الفعال في وأد العقول. هذه التربية التي تؤسس وتبني أفكارها على أساس التسليم المطلق، والانقياد الأعمى، دون تفكير أو مراجعة! لقد نجحت «التربية الحزبية» في السابق، في صناعة ثقافة القطيع، وفشلت في بناء العقول القادرة على التفكير المستقل والمستشرف لمستقبل أمتها، المعزز لنهضتها. وما أشبه اليوم بالأمس مع اختلاف المصطلحات والوجوه!.

فقد استفادت «التربية الحزبية» تلك، وما زالت تستفيد، من خلل في التركيبة الفكرية والاجتماعية العربية الإسلامية، وهي عدم الفصل بين الرجال وما يصدر منهم من أقوال وأفعال. لذلك تحولت كثير من العقول، إلى مستهلك، محتكر لثقافة واحدة، وفكر واحد، وقول واحد، وأسلوب واحد في الحياة. فكلام آية الله والشيخ، أو القائد الملهم، لا يحتاج إلى برهان، بل هو برهان في ذاته. ومعلوم أن هذا خلاف نهج سلف الأمة الصالح، الذين يؤكدون على أن كل أحد من البشر يؤخذ من قوله ويرد، غير النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام.

نحن أحوج ما نكون، في هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا، إلى إيقاف وأد العقول وتكاثر القطيع، واستمرار التخلف. وهذا لن يتحقق إلا من خلال خطاب قائم على الحجة والبرهان، يعتمد المقارعة الفكرية، انطلاقا من قوله تعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). بل إن النصوص الشرعية تنعى على المسلم عدم إعماله لقدراته العقلية التي وهبه الله إياها، كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). إن تحرير العقل من العبودية الحزبية السياسية أو الدينية المسيّسة، مطلب رئيسي في مشروع نهضة الفرد، وبالتالي المجتمع والأمة. ولعل من أبرز مقومات مشروع النهضة، التأسيس لمنهج تفكير عقلاني نقدي ومستقل، بدءا من المراحل الصفية الأولى وانتهاء بالمسجد والبيت، مع الأخذ بالاعتبار أن العقل ليس أصلا للشرع، ولا مساويا له، وإنما هو تبع له يستمد منه قوته وحجته.