«أزر إيجيبت»

TT

في عام 2000، ذهبت إلى مقابلة في واحدة من أهم الجامعات الغربية وأعرقها، ضمن أربعة مرشحين للعمل هناك كأساتذة للسياسة في الشرق الأوسط، لم أحصل على الوظيفة يومها لأسباب يطول شرحها، ولكن كنت راضيا عن نفسي بكل الأحوال، فأن تكون ضمن أفضل أربعة يتنافسون على الأستاذية في جامعة كبيرة هو أمر جيد بلا شك. لكن ليست هذه هي القصة، القصة هي أنني قررت أن ألقي محاضرتي، إذ يجب أن يقدم كل مرشح محاضرة كجزء من المقابلة المعدة للحصول على الوظيفة، ألقيت المحاضرة عن إعادة تصور لدراسات الشرق الأوسط من منظور أهل «الخلا»، كنت أقصد بـ«الخلا» تلك التسمية التي كان يطلقها أبناء المدن علينا نحن الطلاب القادمين من الصعيد. كانوا يسموننا بأبناء الخلا، وكانوا يتحدثون عن المناطق التي جئنا منها على أنها أرض خلاء بما يحمله المصطلح من دلالات مختلفة، فالخلا أو بيت الخلاء في الفقه المالكي مثلا، هو ما نقول عنه مكان قضاء الحاجة أو الحمام. عندما كان أهل المدن يصنفوننا على أننا أبناء الخلا، لم يكونوا يعكسون تحيزا شخصيا، بل كانت رؤية الدولة بكاملها للصعيد، أرض خلاء، خلاء ثقافي وسياسي واجتماعي. وبناء عليه تعاملت معنا القاهرة في خطط التنمية، لا تنمية سياسية ولا ثقافية ولا اقتصادية إلا ما ندر. ومفهوم الخلاء هذا لا يقتصر فقط على رؤية القاهرة للصعيد، بل تبنته أيضا الحواضر القديمة في المنطقة في نظرتها إلى المحيط الإقليمي، فعندما تتحدث هذه الحواضر عن منطقة الخليج أو شمال أفريقيا أو السودان مثلا، فهي مناطق خيرات ولكنها مناطق خلاء سياسي واجتماعي وثقافي. وبما أن مصر محورية في دراسات الشرق الأوسط، تبنى المستشرقون وجهة النظر المصرية في رؤية الشرق الأوسط برمته، باستثناء تركيا وإسرائيل وإيران. ومن هنا كانت محاضرتي عن إعادة رسم جغرافية المنطقة خارج المركزية «الحضرية» المصرية، تصورا أكاديميا لباحث قادم من الخلا، من الأطراف المهملة.

في مواجهة هذا المفهوم الصادم، رد علي أحد أعضاء لجنة التحكيم بطريقة هجومية، فلم يتعامل مع الأفكار بقدر دخوله معي في مواجهة شخصية، كان قد قرأ الـ«سي في» الذي قدمته «وجاب أصلي وفصلي» وصولا إلى القرية التي ولدت فيها في جنوب مصر، وسألني: أنت من «أبر إيجيبت»؟ أي من الصعيد أو مصر العليا كما تترجم هنا في الغرب. لم أتركه يسترسل، ونظرت في عينيه قائلا: «لا مش أبر أيجيبت، أنا من أزر إيجيبت» أي من مصر الأخرى. وقصدت بمصر الأخرى، مصر التي لا يعرفها الغرب إلا ميتة في جثامين فراعنتها فيبحث في آثارها وموتاها وأحجارها، رؤية يكون فيها «الصعيدي الميت أهم من الصعيدي الحي» أما الباحثون الغربيون الذين يتعاملون مع أحياء المصريين لا موتاهم، ممن يشتغلون بعلم الاجتماع والسياسة الحديث، فهم يأتون إلى مصر من أجل إجراء بحث ميداني لا تتجاوز حدود المعرفة فيه كيلومترا مربعا واحدا حول الفندق الذي يقيمون فيه. ومن هنا انتقل الحوار من وضعي في موقف المدافع إلى موقف المهاجم، مع إصرار عضو لجنة التحكيم على تبرير منهجية البحث الغربية لمجتمعات الشرق، تبريرات تبدو براقة باللغة الإنجليزية ولكن متى ما ترجمتها في رأسي إلى العربية، بدت مثل كلام جهلائنا عن أميركا والغرب، كلاما ساذجا وغير مقنع. ولكن بما أنه من كان سوف يمنح الوظيفة أو يمنعها، لم يكن هناك داع لتشنج الصعايدة الذي بدا واضحا علي حينها.

أذكر هذا في الوقت التي تختلط فيه الرؤية حول مصر وتزداد فيه ضبابية، ولا يدري من يتحدثون من خارجها عن أي مصر يتحدثون، سرد بعض من التاريخ الشخصي والذي يبدو وكأنه نوع من السيرة الذاتية، وربما جزء منه كذلك، عن تجربتي بين مصر وبلاد الغرب، أميركا أولا وبريطانيا ثانيا.. لكن الهدف ليس كما يتصوره البعض، ليس لأن في هذه التجربة الشخصية دروسا عظيمة، ولكن الهدف من وراء هذا السرد هو تفكيك مسلمات ثابتة، من أجل إثارة حساسية جديدة لطرح نوع جديد من الأسئلة عن النفس وعن العالم من حولنا، تفكيك قد يقود إلى أسئلة جادة يوما ما، سواء عن بلاد الخلا بمعناها الواسع، أو حتى عن مصر الأخرى، التي تبدو محط اهتمام الجميع الآن، دونما أي اعتبار لمصر الأخرى، أو الـ«أزر إيجيبت».