حديث الإصلاح مرة أخرى

TT

لا يزال حديث الإصلاح يملأ الساحة العربية ويشغل المثقفين العرب في مختلف أرجاء العالم العربي. قد تختلف الخطابات وتتعدد الجهات التي تدعو إلى اللقاء، وقد تتباين المقاصد، لكن الموضوع يظل قائما. لا نحسب أن موسما ثقافيا يمضي أو سنة جامعية تنصرم دون أن يكون «الإصلاح» انشغالا تنتظم حوله أحاديث النهضة، والتحديث والتجديد، والتغيير الاجتماعي وما شاكل هذا من القضايا. يوم السبت الماضي شهدت مدينة الرباط أحد تلك اللقاءات الكبيرة التي يمتزج فيها الثقافي بالسياسي تمازجا شديدا، فقد كان الموضوع هو: الحاجة إلى حركة إصلاحية جديدة. غير أني لن أتحدث عن المائدة واللقاء، مع أهميتهما، وإنما أهتبل الفرصة لطرح سؤال مبدئي يسبق، منطقا وضرورة، القول التقريري (الحاجة إلى حركة إصلاحية جديدة). والسؤال هو: هل نحن اليوم في حاجة إلى حركة مماثلة؟

من المنطقي أن قولنا «نحن»، في السؤال أعلاه، قول يفيد الحديث عن المثقفين العرب خاصة وربما امتد فشمل مجموع ساكني الوطن العربي عامة. ومن البديهي أن «اليوم» يحمل على النظر إلى الإصلاح ضمن الشروط الحالية في العالم العربي: إقليميا، وجهويا، ودوليا. وغني عن البيان كذلك أن الحديث عن الحركة الإصلاحية الجديدة يحمل في جوفه سؤالا آخر: هل هناك فرق إذن بين حركة إصلاحية جديدة وبين الدعوة إلى تجديد الحركة الإصلاحية عامة؟.. تتداخل العناصر الثلاثة فيعسر الفصل بينها، غير أن الضرورة البيداغوجية تستدعي أن تكون وقفتنا الأولى عند الحركة الإصلاحية ودلالتها. وحيث إن المقام لا يحتمل بسط القول والإطناب، فإننا نكتفي بالتنبيه على سمات أربع أساسية تميز الحركة الإصلاحية تمييزا ضروريا. السمة الأولى لكل حركة تستحق نعتا مماثلا هو أن تكون تتوخى العمل وتتجاوز النظر المجرد. غير أن الحركة التي تهدف الإصلاح لا تكون كذلك إلا متى كانت تتصل بفكر يسندها وبنظرية أو ببناء نظري يدعمها، وتلك هي السمة الثانية. أما السمة الثالثة في الإصلاحية فهي اقتضاء وجود النخبة أو النخب التي تبلورها وتدفع بها في ساحة العمل الجماعي، ذلك أن النظر الإصلاحي لا يخاطب إلا النخبة، كما أن الحركة الإصلاحية لا تكون إلا بالنخبة أو النخب. ثم إن للحركة الإصلاحية سمة رابعة، ربما كانت أهم سماتها وأكثرها قوة دون أن يكون في ذلك تقليل من شأن السمات الأخرى، والقصد بها استلزام وجود الثوابت، إنها كذلك لأنها إصلاح لا ثورة، إصلاح لا قلب للنظم والمعتقدات، بل لأنها، على العكس من ذلك، حرص على التشبث بها ودعوة إلى الحفاظ عليها بالرجوع إليها والانطلاق منها. ذلك ما تفيده قراءة التاريخ البشري وما يستخلص من النظر في اللحظات القوية التي عرفت انبثاق الحركات الإصلاحية الكبرى، ولنا على ذلك أمثلة نشير إلى البعض منها إشارات وجيزة. النهضة الكبرى التي عرفتها دول أوروبا في القرن السادس عشر سبقتها حركة الإصلاح الديني فكانت النهضة، بمعنى من المعاني، ترجمة لها وتوظيفا للمبادئ الكبرى التي حركتها (التسامح من جهة أولى والدعوة إلى الرجوع إلى الأصول، من جهة ثانية، ورفع شعار «الإنسية» من جهة ثالثة...). والحركة النهضوية التي عرفتها اليابان منذ القرن 16 (وليس في زمن الميجي، في القرن 19، كما يردد الكثير ذلك عن جهل بتاريخ اليابان) كانت في جوهرها دعوة إصلاح ورجوع إلى السلف بل إن باحثا عربيا متخصصا في تاريخ اليابان الحديث (وهو الدكتور أعفيف) لا يجد حرجا في نعت الإصلاحية اليابانية بالحركة السلفية. وهل نحن في حاجة إلى التذكير بأن النهضة العربية في القرن 19 كانت بدورها حركة إصلاحية تدعو إلى الرجوع إلى الينابيع الأولى؟ صفوة القول إذن أن الحركة الإصلاحية لا تقوم إلا بالتأكيد على الثوابت وضرورتها.

متى تبينا ذلك فإنه يكون علينا أن نحسن النظر في حالنا العربي اليوم في المستويات الثلاثة (إقليميا وجهويا ودوليا) في زمننا هذا. ثم إن أخص ما ينبغي أن يكون استحضارنا له بكيفية دائمة هو سؤال الهوية: من نحن؟ يمكن صياغة السؤال في عبارة أخرى أقل تجريدا فنقول: ما السمات التي نقدر أنها تميز الوجود العربي الحضاري، تلك التي يقدر أن صورته تمثل بها للوعي أفضل من غيرها؟ الرأي عندي أنها تؤول، بالضرورة، إلى ثلاث أساسا. أولاها الإسلام، وثانيتها العروبة، وثالثتها مجموع العناصر الأساس في البنية الاجتماعية التي تختلف، جزئيا، بين منطقة وأخرى من المناطق العربية. أيا كانت النظرة التي ينطلق منها الدارسون للعالم العربي والمنشغلون بشؤونه، فالصورة التي تمثل في الذهن لذلك العالم هي كونه جزءا من العالم الإسلامي. ذاك ما يفيده، في الكتابات الأنثروبولوجية عامة والأنجلوسكسونية خاصة، مصطلح الشرق الأوسط. ينظر إلى الإسلام باعتباره ناظما حضاريا كبيرا يشمل مجموعة هائلة من اللغات (العربية والتركية والفارسية والأردية ولهجات غيرها) ومن الإثنيات. فالدين الإسلامي عندها هو المكون الأساس لما ينعت بـ«الشخصية القاعدية»، أي تلك التي تمثل الخصائص العميقة والقارية في كل ثقافة من الثقافات الإنسانية العظمى. لا يحضر الإسلام في الوعي العربي بحسبانه مكونا ثقافيا أساسيا عند العرب المسلمين، وهم السواد الأعظم للعرب، ولكنه يمثل في الوعي العربي الثقافي عند العرب المسيحيين أيضا، والأمثلة أجلّ من أن تحصى. يمكن القول إذن إن الإسلام، حضارة وثقافة، يمثل الثابت الأول والأكبر في الوجود العربي، ولا عبرة بالمضامين التي تنسب للإسلام دينا، فذاك حديث آخر. أما العروبة فهي بالنسبة للمكون الثقافي العربي أشبه ما تكون بضوء النهار. فهي، كما يقول متكلمة الإسلام، لا تحتاج إلى دليل. ذلك أن العرب، مع تنائي البلاد، يجتمعون عند محبة ديوان العرب وعند التغني بألحان موسيقيين ومطربين يرفعون مقامهم عاليا، ولا إلى التوسع. وما نحسب أننا في حاجة إلى بسط القول في المسألة فهذا مقام تغني فيه الإشارة وتوضح الصورة بمجرد الإشارة.

يبقى الكون الثالث، ذلك الذي يتعلق بالبنية الاجتماعية في كل قطر من البلاد العربية والسمة الغالبة هي سمة التعدد الإثني، وليس صحيحا أن هذا الأمر مما تختص به منطقة المغرب وإن كان فيها أكثر بروزا من غيره من البلدان العربية الأخرى.

لا حركة إصلاحية، كما حاولنا أن نتبين ذلك، دون فكر يسندها، ولا فكر إصلاحي يستحق حمل هذا النعت دون انتباه إلى الثوابت الكبرى التي حكمت الوجود الثقافي العربي في التشكيلات التي شهدها في تكونه في التاريخ. صفوة القول إذن أن حديث الإصلاح، كما نقدر أنه يستحثنا اليوم، يستدعي التذكير بهذه الأوليات البسيطة التي تغيبها الغيوم الكثيفة التي تشوش الرؤية أحيانا عديدة فيكون عنها سوء في الفهم وخلل في الرؤية وذهول عن المقاصد. أليس الذهول عن المقاصد هو الآفة الكبرى التي يعيبها عبد الرحمن ابن خلدون على المؤرخين؟