الدوحة على إيقاع ضربات المعلم

TT

كانت مفاجأة للصحافيين الحاضرين افتتاح «متحف الفن العربي الحديث» أن يسمعوا الشيخ حسن بن محمد آل ثاني يعلن أمامهم بوضوح لا يقبل اللبس، قبل أن يبدأوا جولتهم في المتحف، بأنه من الآن فصاعدا من يريد التعرف على ما أنتجه العرب في المائة سنة الأخيرة من فنون تشكيلية عليه أن يأتي إلى قطر. فهنا توجد أكبر مجموعة فنية أبدعها ليس العرب وحدهم وإنما أهل المنطقة برمتها. التمعت العيون، وصارت أكثر بريقا وهي تكتشف بأم العين أن لوحات كبار الفنانين المصريين والعراقيين والسوريين، الذين اعتبروا أنفسهم روادا في المجال، موجودة في الدوحة، وأن ما فرطت به دول انشغلت عن فنانيها بدهاليز السياسة العمياء، كان يجد من يقدره طوال ربع قرن مضى، في بلد نظر إليه كصحراء قاحلة.

واستكمالا للمهمة فإن هذه المجموعة تخضع للدراسة، من قبل مركز متخصص، كما ستفتح للباحثين، وستطلق من الدوحة موسوعة للفن العربي الحديث.

يصر الشيخ حسن وهو صاحب المجموعة المكونة من أكثر من 6 آلاف قطعة، قبل أن يهديها إلى الدولة، أنه قام بمهمة فريدة لم يقم بها أحد غيره. ثمة متاحف للفن المصري أو الإماراتي، لكن المنطقة لم تجد من يجمع إنجازاتها الفنية المتراكمة ويصنفها طوال قرن ويؤرشفها، كما فعل هو. وحين تتحدث مع هذا الرجل المغرم بالفنون، لا يخفيك أنه استفاد من الإهمال واللامبالاة المستشريين واستطاع الحصول على لوحات ثمينة بأسعار بخسة، قبل أن يدرك كثيرون ما لها من قيمة لا تقدر بثمن، وأخذوا ينفضون الغبار عنها رافعين من سعرها.

لوحات جورج قرم وشفيق عبود أو صليبا الدويهي، في لبنان على أهميتها، ما تزال هباء منثورا في المستودعات أو على حيطان الوزارات المنسية وربما عثرت عليها مرمية في ركن مكتب لأحد الموظفين الذين لم يسمعوا قبلا بالفن الحديث. في قطر تعرض لوحات هؤلاء الفنانين معززة مكرمة، مع لوحات عربية تشاركها الهم وتشبهها في الرؤية. لا شك أن العراقيين سيبلعون ريقهم، مرات عدة حين يزورون هذا المتحف ويعرفون أن إسماعيل فتاح وشاكر حسن آل سعيد، لهم هنا كنوز لم يعد مثلها متوفرا في عراقهم الجريح. ويفاخر الشيخ حسن بأنه بينما كان العراق ينزف في التسعينات، كان هو يتصل بالفنانين العراقيين يدعوهم إلى قطر ليعملوا وينتجوا، وها هي أعمالهم اليوم جزء من هذا المتحف، ومنحوتاتهم منتصبة في باحته الخارجية.

ومما تسمعه في قطر أن باحثين غربيين وآسيويين يريدون اكتشاف الفن العربي الحديث باتوا فعلا يتوجهون إلى قطر لإجراء دراساتهم، وحتى قبل افتتاح المتحف رسميا.

»صحتين قطر» و«الشاطر ما يموت»، قليل من الغيظ العربي قد ينعش الهمم، ويدفع بالمتقاعسين إلى العمل. وإذا كان الكسل معديا فالنشاط من المفترض أن تكون فيروساته أسرع في الفتك والانتشار.

المفارقات مثيرة للغاية. لبنان الذي يعتبر نفسه طليعيا في الفن الحديث يفشل لغاية اللحظة في لملمة شمل رساميه في متحف واحد ولو صغير، رغم المطالبة الدائمة والملحة، بينما تنجح قطر في جمع رسامي العرب على أرضها. المفارقة الثانية الأكثر غرابة أن تعلن دولة موسومة بالمحافظة أنها باتت المركز العربي للحداثة التشكيلية في المنطقة بأسرها. الأمر الذي دعا «سي إن إن» للتساؤل حول ما ستفعله قطر باللوحات الإباحية، وهل ستمارس الرقابة الذاتية على معروضاتها. الإجابة تأتيك ذكية: «ما يعترض عليه من الجمهور سيخضع للنقاش. فالمتحف مكان للحوار المفتوح والمثمر».

يحلو للبعض وهو يكتشف ما تفعله قطر أن يقول «بأنك بالمال تفعل كل شيء»، وإن الفضل للبترول والغاز. وهي مقولة خاطئة ومراوغة، لن تزيدينا إلا ترديا. فهل يحتاج أي بلد عربي إلى ثروة كي يجمع أعمال فنانيه على الأقل، في متحف أو أي مبنى يسترها من الهلاك؟ وهل كان العراق فقيرا يوم هرب منه فنانوه إلى قطر؟

يتحدثون في الدوحة بخفر عن مقتنيات مهمة من الأسلحة والمنسوجات، وكذلك آلات التصوير الضوئي والمسكوكات. وثمة عدد كبير من السيارات القديمة، وكل هذه المقتنيات تصلح لأن تكون نواة لسلسلة من المتاحف، يبدو أن أحدا لا يريد التحدث عنها في الوقت الحالي.

أما المعلن فهو أن «متحف الفن العربي الحديث» لن يقف هنا وله خطة طويلة الأمد. ولا بد أن تلحظ بمشاهدتك الشخصية أن قطر تدفع أموالا هائلة، في الوقت الحاضر - لن تجد من يحدثك عن قدرها - لاجتذاب النخبة الفنية العربية المعاصرة وتمول مشاريعهم بسخاء لافت. ولا ننسى أن ما سينجزه هؤلاء من المفترض، أن يصبح مع الوقت، جزءا من المتحف الجديد الذي يراكم إلى مجموعته ما استطاع من الأعمال. أما الدفعة المستضافة راهنا في الدوحة فمجموعة من 23 مبدعا، يعرضون غرائب الأفكار والتجهيزات منها ما هو شديد السوريالية، وبعضها جرئ ومجنون، سيشاهدها القطريون بدءا من نهاية العام.

أقل ما يمكن أن يوصف به مشروع «متحف الفن العربي الحديث» بأنه ضربة معلم. وإذا أضفت إلى ذلك أنه افتتح بعد أيام من الإعلان عن فوز قطر بتنظيم بطولة كأس العالم، وبالتزامن مع تسمية كوكب اكتشف حديثا باسم هذه الدولة الصغيرة الطموحة، تفهم لماذا كان للعيد الوطني القطري هذه السنة طعم الانتصار عند المواطنين الذين بقوا يجوبون الشوارع ويتظاهرون بسياراتهم ثلاثة أيام دون تعب أو كلل.