تركيا تتجه إلى لحظات مثيرة

TT

لو ذكرت اسم تركيا أمام معظم الخبراء داخل واشنطن، يحتمل أن تثير مقدارا كبيرا من النقد اللاذع. وسيُقال إن الحكومة الحالية داخل تركيا ما هي إلا مؤامرة إسلامية تقدم نفسها كقوة تدفع من أجل الديمقراطية. وسيتم وصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بأنه نموذج أكبر لرئيس إيران محمود أحمدي نجاد أو أنه «رجل عابث غير عميق»، مثلما جاء في رسالة دبلوماسية مسروقة نشرها موقع «ويكيليكس».

والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الأسباب التي تقف وراء هذا التحول المفاجئ لحليف قديم للولايات المتحدة، ولماذا يصبح مناوئا لها، إن لم يكن خصما خطيرا؟

الأسباب المباشرة لهذه الصورة السلبية لتركيا داخل واشنطن لها أهمية عابرة وحسب. كانت هناك أزمة بين تركيا وإسرائيل بسبب محاولة كسر العقوبات المفروضة على غزة، وهي المحاولة التي انتهت بمأساة. وكعضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي، رفضت تركيا التصويت لصالح المزيد من العقوبات ضد إيران. وتوجد اتجاهات خفية أكثر عمقا ولا تحظى باهتمام كبير تحدد السلوك الحالي لتركيا، وقد تغير شخصيتها كدولة في وقت ما.

تركيا اليوم هي بقايا الإمبراطورية العثمانية، التي كانت دولة ناجحة خلال الجزء الأكبر من تاريخها الطويل على الرغم من أخطائها الكثيرة. وخلال العشرينات من القرن الماضي، احتاج من تبقى من النخبة العسكرية، وكان معها نحو 15 في المائة من السكان، إلى إطار من أجل بناء دولة صغيرة. ولم يكن في استطاعتهم العزف على الوتر الإسلامي لأن الخلافة العاجزة كانت منبوذة. ورفعوا شعار القومية، التي كانت الآيديولوجيا السائدة في ذلك الوقت.

وتفترض الدعوة إلى القومية وجود أمة. ولكن في ذلك الوقت لم تكن الجمهورية التركية قد أصبحت أمة، إذ كانت موطنا لليونانيين الآسيويين والأرمن والأكراد إلى جانب تشكيلة من المجموعات العرقية تتحدث عددا من اللغات التركية. ومع توسع الإمبراطورية السوفياتية إلى شبه جزيرة القرم والقوقاز، انتقلت أعداد كبيرة من المسلمين إلى تركيا هربا من «الشيوعيين الملحدين»، مما جعل المكون العرقي داخل تركيا أكثر تعقيدا. وتحتاج أي دولة إلى أسطورة توحّد بين الأطياف المختلفة، وقد وجدت الجمهورية التي أنشأها مصطفى كمال ذلك في «أمة تركية عظيمة تمتد من المجر إلى الصين». وتم اللجوء إلى أكاديميين فرنسيين من أجل «إثبات» أن هذه الدولة كانت موجودة. وبلغ الأمر أن «أثبت» أحدهم أن فنلندا كانت جزءا من تلك الدولة.

وكما هو الحال داخل دول أخرى لها تجارب مشابهة، جذب الخطاب القومي داخل تركيا الجيش والحكومة وشرائح من المثقفين والمفكرين. ومن جديد وكما هو الحال دوما، اتخذت منحى عدائيا إزاء الدين، وفي هذه الحالة كان الدين هو الإسلام وكان ذلك باسم العلمانية.

وبالنسبة إلى العدد الأكبر داخل تركيا، بقي الدين عنصر وحدة قويا ربما لأن الإسلام ليس دائما على عداء مع التنوع العرقي. وعلى مدى قرابة خمسة عقود سيطرت أسطورة الأمة ومعها النظام العلماني الجمهوري على تركيا وحققا بعض النجاح في مجال التنمية الاقتصادية والتجديد السياسية.

وخلال الثمانينات من القرن الماضي أصبح واضحا أن الصيغة الأتاتوركية لجمهورية علمانية قومية تفقد مقوماتها بصورة مطردة. وأتذكر حوارا داخل اسطنبول عام 1984 مع تورغوت أوزال، وهو الرجل الذي خطط لإنهاء الحكم العسكري وأصبح رئيسا لتركيا، قال فيه: «أشعر أننا في حاجة إلى شيء مختلف عن اللهجة القديمة». ووجد أوزال «شيئا مختلفا» في نظرة أكثر تعاطفا للماضي العثماني مع تعريف العلمانية على نطاق أوسع لإعطاء مساحة أكبر للدين وتقديم خطة طموحة لإنهاء السيطرة على الاقتصاد من جانب القطاع العام.

وأكدت صيغة أوزال على نجاحها بالقدر الكافي على مدى أكثر من عقد. ولكن كان بها قصور، ليس أقله الفشل في أخذ تحليلها الخاص إلى نهايات منطقية والبحث عن قالب ديمقراطي رأسمالي شامل. وترك عجز الأحزاب العلمانية عن صياغة خطاب جديد فراغا حاولت الأحزاب الإسلامية المتعاقبة ملأه ولكنها لم تحقق نجاحا كبيرا. وتمكّن حزب العدالة والتنمية من ملء هذا الفراغ جزئيا، على الأقل في الوقت الحالي، من خلال التعهد بدولة علمانية داخل مجتمع ديني.

ولكن لم ينجح حزب العدالة والتنمية في الفوز بأكثر من أغلبية الأصوات حتى الآن. ويعني ذلك أن كثيرا من الأصوات إما لها منحى عدائي أو عندها تحفظات على حزب العدالة والتنمية. ولا يعني ذلك أن حزب العدالة والتنمية على وشك أن يخسر السلطة قريبا، حيث يحظى الحزب بوجود قوي وبدعم من مختلف الشرائح داخل مجتمع الأعمال الذي يستفيد من منح الدولة، ولذا أصبح لدى الحزب موارد أكثر من أي حزب آخر في تاريخ تركيا. ومع ذلك أعتقد أن خطاب حزب العدالة والتنمية وصل إلى منتهاه وربما يكون في طريقه إلى الضمور. ويوحي قيام حزب العدالة والتنمية بالعزف على أوتار إسلامية بصورة لم تكن تحدث من قبل بأنه يجب أن تقود تركيا العالم الإسلامي، ولا تعد هذه إشارة على ثقة متزايدة بالنفس ولكنها تظهر شكوكا متنامية. وداخل الساحة السياسية يكون الخطاب المقيد دائما علامة على أن الحزب يريد أن يعبئ قاعدته بعد أن فقد الأمل في كسب جمهور أكبر. ولا يبدي أغلبية الأتراك اهتماما بأن يروا بلدهم يقود العالم الإسلامي، وليس لدى تركيا الموارد التاريخية والدينية والثقافية اللازمة من أجل المحافظة على هذا الزعم.

ويحاول حزب العدالة والتمنية التملص من المسؤولية فيما يتعلق بأربع قضايا هامة على الأقل؛ الأولى هي رغبة تركيا في أن تكون عضوا داخل الاتحاد الأوروبي. ولم تعد هذه الرغبة قوية كما كان الحال قبل عقد من الزمان، ولكنها لا يمكن أن تترك في طي النسيان. ويتحدث الرئيس عبد الله غل عن عقود من المفاوضات عقب استفتاءات داخل تركيا والاتحاد الأوروبي، وهي وسيلة من أجل التحايل على القضية. وتتمثل القضية الثانية في حرب شرق الأناضول، وهي تدخل الآن عامها الرابع ولا يزال حزب العمال الكردستاني الذي أعلن أردوغان وفاته في أكثر من مناسبة على قيد الحياة ويوجه ضربات. وبعد أن التف حول القضية على مدار 10 أعوام، يعود حزب العدالة والتنمية إلى السياسة القديمة من خلال التعامل مع القضية الكردية على أنها مشكلة أمنية يجب معالجتها باستخدام قدر أكبر من القوة.

وتتعلق القضية الثالثة بالسياسة الاقتصادية: فبعد أن مد أذرعه بمختلف أنحاء القطاع العام، يفقد حزب العدالة والتنمية شهيته لاقتصاد السوق. ويمكن أن يؤثر ذلك على النمو الاقتصادي داخل تركيا الذي وصلت نسبته في المتوسط إلى 6 في المائة خلال العقد الماضي. ولا يعد النموذج الصيني من الرأسمالية، والذي تسيطر فيه الدولة على الاقتصاد في إطار حزب حاكم واحد، مناسبا لتركيا.

وتتمثل القضية الرابعة، وهي قضية الفساد. وعلى المستوى الشخصي فإن الوزراء والمسؤولين التابعين لحزب العدالة والتنمية أقل تورطا في أعمال فساد بالمقارنة مع الكثيرين من أسلافهم.

ومع ذلك فقد صاغ حزب العدالة والتنمية شكلا جديدا مما قد يبدو أنه سوء إدارة، وذلك من خلال استخدام قوة الدولة لمصلحة رجال الأعمال وشركات لها علاقة طيبة مع الحزب الحاكم. وفي نفس الوقت، أخذ حزب العدالة والتنمية يضع رجاله في مناصب هامة داخل الخدمة المدنية والقضاء والجيش. وقد أثارت هذه الإجراءات بالفعل رد فعل عكسيا، ومن المحتمل أن تضعف حزب العدالة والتنمية بدرجة أكبر خلال انتخابات مقبلة.

وللمرة الأولى خلال عقد من الزمان، أصبح أمام المعارضة التركية فرصة للعودة إلى السلطة. ولكن، لا يمكنها القيام بذلك من خلال خطاب يركز على الماضي، فما يحقق الفوز في الانتخابات هو أمل في المستقبل وليس حنينا للماضي.