الخافق المعذب يتكلم

TT

كثيرا ما كان خطباء الجمعة في المساجد، وبعضهم ما زالوا، يدعون بالهلاك والتدمير على من خالفوهم بالدين، وأن يمسحهم الله من على وجه الأرض اليوم وقبل مغيب الشمس.

وأنا بالمناسبة لا اعتراض لي على حماستهم المفرطة تلك، ولكنني كنت، وما زلت، أتمنى لو أنهم على الأقل استبدلوا ألفاظ الهلاك والتدمير، بألفاظ الهداية والرشد مثلا، والمسألة بسيطة ولا تحتاج إلى هذا القدر العنيف من التشنج.

لأنني بصراحة لا أتخيل العالم إطلاقا، لو أن الله سبحانه قد استجاب لدعواتهم، وخلت الكرة الأرضية تماما من هؤلاء الأطباء العباقرة الإنسانيين الذين اخترعوا أو اكتشفوا البنسلين والأسبرين والمضادات الحيوية، وزرعوا واستبدلوا الأعضاء البشرية بغيرها، وهم الآن بصدد تفعيل الخلايا الجذعية لتكون (ستوك) وقطع غيار لمن تلفت أعضاؤهم.

ولا أدري كيف يكون حال ذلك الخطيب المتحمس لو أن قلبه أو كبده أو حتى خصيته مثلا قد تلفت، ولا يمكن له أن يعيش إلا باستبدالها على يد طبيب من هؤلاء الذين أوقفوا حياتهم على هذا الإنجاز غير المسبوق؟!، حقا ماذا سوف يكون مصير ذلك الشيخ الورع؟! ليس لديّ شك، ولا واحد في العشرة، أن ذلك الشيخ سوف يسعى حثيثا للتزود بذلك، وإجراء العملية اليوم قبل بكرة، والحمد لله أن الله سبحانه لا يستجيب للدعوات الهوائية التي قد تضر ولا تنفع، لأنه سبحانه أدرى بمصلحة عباده، لهذا أعطاهم المجال لكي يبدعوا.

مع استطرادي و(هنجمتي) بالكلام كدت أنسى الموضوع الذي أنا بصدده.

فقد قرأت بالأمس عن طفل في شهره الخامس كان على شفا حفرة من الموت، لأن قلبه الصغير تالف نهائيا ولا أمل له من علاج إلا باستبدال قلب آخر به، وإذا بالمقادير تنجده في آخر لحظة بطفلة عمرها ستة أشهر توفيت دماغيا، وتبرع أهلها بأعضائها لمن يستحق، بما فيها قلبها.

وكان الموضوع كله مجرد ساعات لمسابقة الزمن، الطفلة المتبرعة في بلد والطفل المستحق في بلد آخر، ولكي لا تفوت الفرصة استنجد الأطباء بسلاح الطيران الأميركي من أجل السرعة، واستجابوا لذلك، وبما أن الطائرة المقاتلة (4F) وهي أسرع من الصوت لا تتسع إلا للطيار ومساعده، فقد استغنوا عن المساعد ليحل مكانه الوعاء المبرد الكبير الذي فيه القلب، واستغرقت الرحلة ثلاث ساعات ونصف الساعة، بدلا من الطائرة العادية التي تقطع المسافة في سبع ساعات، ووصل القلب في الوقت الحرج، ومن الطائرة ركضًا إلى غرفة العمليات، وبدأت رحلة التحدي على أيدي الأطباء الذين يقبلون التحدي، لا الحكي الفارغ.

وفي الساعة الخامسة والنصف صباحا كان قلب (أندرو) الجديد يخفق في موضعه.

كل هذا حصل في مستشفى جامعة (ستانفورد) عام 1986.

واليوم ها هو (أندرو) قد تخرج في كلية الطب، وسوف يكمل تخصصه في جراحة القلب.

لا أدري ماذا أقول غير أن أتوجه بالدعاء: اللهم احفظ العلماء والأطباء جميعا في مختلف أنحاء العالم، مسلميهم وغير مسلميهم.

وإنني على يقين لو أن هذا الخافق المعذب الذي يقبع في الجانب الأيسر من صدري الشبق، لو أنه تلف لا سمح الله، فلن أقبل، بل وسوف أرفض رفضا قاطعا أن يحل أي قلب آخر مكانه، لأنه يحوي من الأسرار والتجارب واللوعات والبلاوي ما لا تعد ولا تحصى.

وآخر دعائي أن الحمد لله رب العالمين، وما شاء فعل.

[email protected]