أعرف أنك تعذر

TT

لست أدري بأي خجل أعتذر عن تغيبي هذا العام عن اللقاء الذي يعقده رفاق أحمد بهاء الدين وأصدقاؤه وعائلته. ولست أدري إلى من من هؤلاء أنتسب. فكل من عرف بهاء، شعر باعتزاز القربى، وتعزية الصداقة، ورقي الرفاقية. وكلما مر عام على غياب بهاء ازدادت ذكراه قربا لا بعدا. فلا بديل ولا شبيه ولا من يقاربه في تلك الصفات والخصال، في الطيبة، وفي الطيب، وفي الفكر، وفي الذكاء، وفي الفطنة، وفي الخلق النبيل.

وتبقى ذكرى بهاء حية في قلوب أصدقائه، ليس في صورة عفوية، ولا طقسا من الطقوس، ولا مجرد وفاء إلى رجل نادر، بل لأن كل من عرفه، كاتبا ومصريا وعربيا وإنسانا، يشعر بأنه مرغم أن يتذكر. مرغم أن يفتقد. مرغم أن يفي ذلك الحضور الأكبر، في تقبل الغياب الكبير.

ثمة فئة من الناس، تسعدنا حين نتذكرها. تؤنسنا حتى في غيابها. رجال مروا في هذه الدنيا، وتحولوا في الذاكرة إلى قلاع باقية، تنشر من حولها الفرح والمحبة والاحترام. لم يكن سحر بهاء فقط في بيانه بل في كيانه. في كل ذرة منه. وكم كان الشبه هائلا بين هذا الأجعد الأسمر المتواضع القامة، والعملاق الأبيض العريض المنكبين، غازي القصيبي.

كلاهما كتب كأنه يغرف من انسياب الأنهر وعذوبة الينابيع. وعاش كلاهما وكأن المجد الحقيقي في الظل لا في الوهج. وسار كلاهما على دروب الحياة وفي أدغالها، محلقين فوق كل صغارات الحياة وحقاراتها وحقرائها: سماح، ورقة، وأنفة، ترفع ما أندره وما أعظمه وما أحبه من ترفع.

عندما أكتب عن بهاء، تتملكني دائما أنانية أعرف أنه يسامحني عنها. تغالبني دائما رغبة من يريد الاعتزاز بأنه كان صديقا ورفيقا، لهذا الأمير الأسمر الصغير. وليس هذا منذ اليوم. وليس هذا بفعل غيابه وافتقادنا إليه، بل لم يكن يغيب عني لحظة، وأنا معه في مقهى أو في مكتب أو في منزل أو في مسرحية، إنني مع معلم، مهما حاول أن يغطي بتواضعه تلك الصفة. لم أذهب مرة إلى لقائه إلا وقد حملتني مشاعر السرور والاعتزاز والإدراك بأنني سوف أجاور منجما من المعرفة والخلق والظرف والحكمة، وخصوصا الارتفاع والترفع.

الذين لم يعرفوا بهاء قد يخامرهم شك بأنني أبالغ. والذين عرفوه يعرفون كم أنا مقصر. ولن يغفروا لي التخلف عن ذكراه في القاهرة هذا العام. ولا أنا أسامح نفسي.